الخميس، 17 ديسمبر 2015

عليك أن تغير حياتك!


"بين المكتبات وأصحابها جدل حاد برغم صمته، مرير برغم حرارته، يومًا ما ستقف أمام ما دفعت فيه دم قلبك من كتب لتسأل نفسك هل سيأتي اليوم الذي تنهي فيه قراءة كل هذه الكتب؟ قبل أن تجيب ستباغتك نفسك بسؤال ألعن وأضل "هل تتذكر أساسًا ما قرأته من كتب لكي يشغلك همُّ ما لم تقرأه؟"، سؤال مضني ممض مرير موجع، كنت أظن أنني وحدي الذي أعاني من وطأته، معتقدًا أنني دون غيري أحمل ذاكرة رديئة التجميع لا تنشط إلا في النسيان، نسيان الكتب التي لم أرد يومًا أن أنساها." 

- بلال فضل، في أحضان الكتب

كانت هذه الفقرة  في بداية مقال بعنوان " حتى لا تنسانا الكتب!" ذلك المقال الذي عنى لي الكثير كما استنتج كاتبه في أول سطرين منه. فبيني وبين مكتبتي هذا الجدل الصامت. والواقع أني لست بحاجة لأقف أمامها حتى يبدأ هذا الجدل، فمكتبتي أمام سريري بالضبط، أو لنقل جزءًا منها يقع في رفين مكتظين بالكتب أمام سريري، وفي مستوى عيني فتكون من أول الأشياء التي أراها ، كلما حُييت من الموتى الصغرى يوميًا. فأنا أيضًا أنظر لها واتساءل ما الذي أذكره من كل هذه الكتب؟ ما الذي استفدته منها ؟ هل أصبحت مَن أريد أن أكون بفضلها؟ هل تحسنت حياتي بعد قراءتها؟ هل أصبحت حكيمة زماني أخيرًا بعد ما كنت أقضي جل وقت فراغي في القراءة ولا شيء سواها. إن لم تكن قد فعلت هذا فما فائدتها إذًا؟ 

مررت بفترة من حياتي شعرت فيها بقلة الرغبة في القراءة، بقلة فائدتها وتأثيرها بي، حينها كنت أقول أن الكتب لم تفدني بشيء وأني "كمثل الحمار يحمل أسفارًا". اقرأ ولا زلت لا أفقه شيئًا في هذه الدنيا. حتى استمالني شغفي بالكتب مجددًا، وعدت للقراءة، وأنا أقنع نفسي بأن تلك الكتب أثرت بي بالتأكيد حتى لو كنت لا ألاحظ ذلك بشكل مباشر، حتى إن بقي ذلك التأثير في عقلي اللاواعي . كل تلك الحيوات التي قرأتها وخبرتها بسبب الكتب لم تكن مجرد ثرثرة فارغة لم تغنِ تجربتي الشخصية.

في المقال يتحدث بلال فضل عن مقال للكاتب الألماني "باتريك زوسكيند" صاحب الرواية الشهيرة "العطر"، والتي لم أقرأ له سواها و أجزاء من المقال الذي اقتبسه بلال ليحدثنا عن الأمر، وأنا جدًا ممتنة لأنه فعل
في المقال يحكي زوسكيند أنه اختار كتابًا عشوائيًا من مكتبته، وبدأ في قراءته واستمتع أيما استمتاع بذلك، وأمسك بالقلم الرصاص ليضع خطوطًا تحت ما أعجبه وليكتب بعض الملاحظات مع وصف جيد جدًا! ليكتشف أن الوصف موجود وكذلك الملاحظات، وكلها بخطه، رغم أنه لا يذكر قراءته لذلك الكتاب من قبل!

"هنا أشعر بانقباض مجهول، لقد استولى عليَّ المرض القديم من جديد، فقدان الذاكرة الأدبية، الفقدان الكلي، وتغمرني موجة من الاستسلام للقدر لأتساءل عن جدوى كل السعي إلى المعرفة، السعي عمومًا، لماذا نقرأ إذن، لماذا أقرأ مثلاً هذا الكتاب من جديد، إذا كنت أعرف أني لن أتذكر شيئًا منه على الإطلاق بعد قليل، لماذا أفعل شيئًا على الإطلاق، إذا كان كل شيء سيضيع، لماذا أعيش إذا كنت سأموت، أغلق الكتاب الجميل، أنهض وأتوجه إلى رفوف المكتبة كالمنهار، كالمعذب، وأدس الكتاب بين صفوف مجلدات الكتب الأخرى المجهولة، الشاملة، والمنسية
.....
أجلس على كرسي مكتبي. عار. فضيحة. أستطيع القراءة منذ ثلاثين عامًا وقرأت، إن لم يكن الكثير، إلا أني قرأت بعض الكتب وكل ما تبقى منها هو ذكرى ضعيفة جدًا، عن شخص ما يطلق النار على نفسه من مسدس من المجلد الثاني من رواية يبلغ عدد صفحاتها الألف. هل قرأت ثلاثين عامًا عبثًا. آلاف ساعات طفولتي، شبابي وكهولتي أمضيتها في القراءة ولم أحتفظ منها إلا بنسيان شامل، ولو أن هذه الكارثة تضمحل، لا على العكس إنها تسوء، إذا قرأت اليوم كتابًا أنسى بدايته قبل أن أصل إلى نهايته. أحيانًا لا تكفي قوة الذاكرة لمتابعة مطالعة صفحة واحدة، وهكذا تطلع روحي فقرة فقرة، جملة جملة، وقريبًا سأصل إلى حد لا أفطن فيه بوعي على الكاميرات المفردة التي تتدفق من ظلام نص يزداد غرابة عليّ، تتوهج في لحظة القراءة كمذنبات لتهوي للحال في تيار نهر النسيان المعتم. "

- باتريك زوسكيند.

منذ يضعة أسابيع أخبرتني صديقتي أن رواية "بعيدًا عن الناس" ستتحول إلى فيلم، قلت لها أن الاسم يبدو مألوفًا إلى حد ما، لكني لم أقرأها، فقالت لي أني قرأتها بالتأكيد ! تفاجئت، خاصةً وأني أتفاخر دومًا بذاكرتي القوية! ذهبت للـجود ريدز ، ووجدت بالفعل أني قرأتها منذ عام أو اثنين، ولولا أني أذكر صورة الغلاف لقلت أني ارتكبت خطأ ما ووضعتها في رف ما قرأت وليس في رف ما أريد قراءته. بعدها بقليل تذكرت شيئًا من القصة العامة للرواية. لكن الموقف نفسه أصابني بشيء من الرعب، سرعة نسياني لما قرأت تزداد طرديَا مع مرور السنوات، ومع كثرة ما أقرأ. حينها قلت أني يجب أن أكتب أكثر عمّا أقرأ ولو بضعة سطور أكتب فيها انطباعي العام عن الكتاب أو العمل الأدبي

وهذا ما يتحدث عنه زوسكينند في مقاله .. 
" ...عليك ألا تستسلم لفقدان الذاكرة المهول هذا، عليك أن تصمد بكل قوة في وجه سيل نهر النسيان، عليك ألا تغرق كليًا في نص ما، بل عليك أن ترتفع فوقه بوعي واضح، ناقد، عليك أن تستخلص منه أفكارًا، أن تدون ما يذكرك به، أن تقوم بتدريب الذاكرة، وبكلمة، وهنا أقتبس من قصيدة مشهورة، سقط اسمها واسم مؤلفها من ذاكرتي في هذه اللحظة، لكن سطرها الأخير محفور في ذاكرتي كإملاء معنوي دائم لا تمحوه الأيام، جاء فيه: "عليك أن... عليك أن... آه، مصيبة، الآن نسيت الكلمات، لكن ليس هذا موضوعنا، فمعناها حاضر لي فعلا، كان معناها تقريبًا عليك أن تغير حياتك".

أحببت المفارقة التي أنهى بها المقال، فحتى بيت الشعر ذلك جرفه سيل النسيان من الذاكرة. لكني سأحاول قدر استطاعتي تنفيذ وصيته، وسأدرب ذاكرتي وأستخلص أفكارًا، وأكتب عمّا قرأت. ربما حينها ستتغير حياتي فعلاً !

لاحظت وأنا أكتب هذه التدوينة، أن هذه مقال تتحدث عن مقال يتحدث عن مقال! بدا لي الأمر غريبًا، لكني تغاضيت عنه لأنه يتفق مع محاولتي لتطبيق التغييرات الجديدة!

*** 

بمناسبة الكتب وكثرة القراءة. منذ بضعة أسابيع كنت أتصفح موقع الـ Goodreads ، حينما رأيت إحدى من أتابعهن عليه أعجبت بتحدي عام 2015 لشخص آخر، كان ذلك الشخص قد قرأ أكثر من 900 كتاب هذا العام، وكاد يصل للألف فعلاً
ووجدت تعليقات الانبهار على هذا الإنجاز العظيم! حتى أنا انبهرت للوهلة الأولى، ثم قلت لا يمكن أن تنجز كل هذا القدر من القراءة إلا لو كانت تقرأ روايات جيب أو pop art ، أو كوميكس أو مانجا، أو كانت تسمع كتب صوتية قصيرة معظم الوقت. وفتحت قائمة كتب ذلك التحدى لأتأكد من صحة استنتاجي ولأرضي فضولي الشديد بالتأكيد، وإذا بمعظم الروايات قصيرة تكاد لا تصل لمائتين صفحة، واستنتجت من الغلافات الأولى أنه بوب أرت رومانسي  فعلاً، حتى أتت بقية الأغلفة ليرتفع حاجباي وأقول بصوت لا أدري إن كان داخليًا أم مسموعًا:   !!Yaoi دخلت لأعرف أكثر عن صاحبة الملف فإذا بها تعرف عن نفسها بأنها أم في الثلانيات والاعتناء بابنها ذي الستة عشر ربيعًا يلتهم معظم وقتها. حينها ازدادت دهشتي وقال لسان حالي: لك ابن بهذا السن وتقرأين روايات كهذه؟ هل تأخذينها من ابنك ورفاقه مثلاً أم ماذا؟؟
غادرت الموقع وأنا اذكر نفسي أن للناس فيما يعشقون مذاهب، ورددت المثل الذي تحب والدتي العزيزة استخدامه كثيرًا، 
"مو كل مين صف الصواني قال أنا حلواني!!" ولا كل من قرأ ألف كتاب أصبح حكيم زمانه!. 


                                                                     ***



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق