"الغريب هو الشخص الذي يجددُ تصريح إقامته. هو الذي يملأ النماذج ويشتري الدمغات والطوابع، هو الذي عليه أن يقدّمَ البراهين والإثباتات. هو الذي يسألونه دائمًا: من وين الأخ؟"
"هو الذي تنعطب علاقته بالأمكنة، يتعلق بها وينفر منها في الوقت نفسه."
يحكي لنا الشاعر مريد البرغوثي عن عودته لزيارة "رام الله" بعد سنوات غربة طويلة، قاربت الثلاثون عامًا. ويبدأ حكايته بالوقت الذي قضاه منتظرًا قبل عبور الجسر المؤدي إلى الضفة الغربية. نصاحبه في زيارته لرام الله وما رافقها من رحلة داخلية عبر ذكرياته ومشاعره.
"الغريب هو الذي يقول له اللطفاء من القوم: أنت في وطنك الثاني وبين أهلك. هو الذي يحتقرونه لأنه غريب، أو يتعاطفون معه لأنه غريب، والثانية أقسى من الأولى."
**
ابتاعت أختي هذا الكتاب الصيف الماضي، وظل على لائحة الانتظار طويلاً، فرغم تشوقي لقراءته كنت أخشى البدء. وعندما قررت قراءته أخيرًا وأخذته معي هو وكتاب أو كتابين آخرين كلما حان وقت القراءة. ظل الكتاب يتنقل أسبوع أو أكثر دون قراءة. حتى أن أختي سألتني: لماذا يتنقل معكِ هكذا ولا تبدأين بقراءته! هل تعذبينه ؟!
والواقع أني كنت أخشى التماهي الشديد معه إن قرأته، كنت أخشى أن يغيّم على مشاعري بغيمة حزن وغربة تلوح في أفُقي الداخلي مؤخرًا. ولأن توقعاتي قلما تخيب، حدث ما خشيت، وتماهيت معه أيما تماهي، وتكاثفت غيوم الحزن والغربة بداخلي. لكن أظلم الكتاب إن قلت أن هذه الغيوم الوحيدة التي جعلها تتكاثف!
فالكاتب لا يحكي لك عن مأساة غربته راغبًا منك التعاطف معه، ولا يندب حكايته بأسلوب الرثاء للذات الذي يجعلك تعاف التفاعل مع التجربة، لكنه يكتب الصورة كاملةً كإنسان يمر بمحنه..ما رآه وشعر به، المحزن في الأمر، والمثير للسخرية فيه، الفواجع التي تمر بها فلطسين، ولحظات الفرح العابرة، اليأس الذي استفحل وكاد يبتلع القضية وبوارق الأمل التي تلوح أحيانًا.
ستشعر بثراء المشاعر الإنسانية أثناء قرأتك، ستفهم مجددًا وبوضوح أكبر معنى القول الشهير "شر البلية ما يُضحك".
وإن لم تكن ولدت في المنفى مثلي، سيجعلك ترى ملامح الغربة كاملةً.
- أولها شارة "مؤقتًا" التي ستعلقها على جُلّ ما تفعله في حياتك...
"منذ الـ 1967 وكل ما نفعله مؤقت و"إلى أن تتضح الأمور"...والأمور لم تتضح حتى الآن بعد ثلاثين سنة! حتى ما أفعله الآن ليس واضحًا لي، أنا مندفع باتجاهه ولا أحاكم اندفاعي. وهل يكون الاندفاع اندفاعًا إذا حاكمناه!
في نكبة 1948 لجأ اللاجئون إلى البلدان المجاورة كترتيب "مؤقت"..تركوا طبيخهم على النار آملين العودة بعد ساعات!
انتشروا في الخيام ومخيمات الزنك والصفيح والقش "مؤقتًا". حمل الفدائيون السلاح وحاربوا من عمان "مؤقتًا" ثم من بيروت "مؤقتًا" ثم أقاموا في تونس والشام "مؤقتًا". وضعنا برامج مرحلية للتحرير "مؤقتًا".... قال كل منا لنفسه ولغيره "إلى أن تتضح الأمور." "
- وثانيها أنك ستتعلم الكثير عن الحب الغيابي:
"كيف غنيت لبلادي وأنا لا أعرفها؟ هل أستحق الشكر أم اللوم على أغانيّ؟ هل كنت أكذب قليلاً؟ كثيرًا؟ على نفسي؟ على الآخرين؟
أي حُب ونحن لا نعرف المحبوب؟ ثم لماذا لم نستطع الحفاظ الأغنية؟ ألأنّ تراب الواقع أقوى من سراب النشيد؟ أم لأن الأسطورة هبطت من قممها لهذا الزقاق الواقعي.
.... لكن هل بقي للغريب عن مكانة إلا هذا النوع من الحب الغيابي؟ هل بقي له إلا التشبث بالأغنية، مهما تشبثه مضحكًا أو مكلفًا؟."
- وثالثها أنّه حتى لو ابتسمت لك الحياة على سبيل التغيير، ستظل غصة الغربة في حلقك
"أنت لا تبتهج فورًا بمجرد أن تضغط الحياة زرًا يدير دولاب الأحداث لصالحك. أنتَ لا تصل إلى نقطة البهجة المحلوم بها طويلاً عبر السنوات وأنت أنت. إن السنوات محمولة على كتفيك. تفعل فعلها البطيء دون أن تقرع لك أي أجراس."
- ورابعها أنّ "الغربة لا تكون واحدة، إنها دائمًا غُُربات.
غُربات تجتمع على صاحبها وتُغلق عليه الدائرة، يركض والدائرة تطوّقه. عن الوقع فيها يغترب المرء "في" أماكنه و"عن" أماكنه. أقصد في نفس الوقت.
يغترب عن ذكرياته فيحاول التشبث بها. فيتعالى على الراهن والعابر. إنّه يتعالى دون أن ينتبه إلى هشاشته الأكيدة، فيبدو أمام الناس هشًأ ومتعالًا. أقصد في الوقت نفسه."
وخامسها أنّك حتى عندما تعود للوطن سيتسلل لداخلك الشعور بالغربة..
"لم يكن من حقي الشعور بتلك الرعشة الخفيفة، لكني شعرت بها.
أردت فعلاً أن يعرفني أحد. حتى ذلك الشيخ الذي يسير ببطء وتأمل لم يعرفني ولم أعرفه. لم أسأل من يكون. لم أسأل.
سخيف أن تطرح في مسقط رأسك أسئلة السياح: من هذا وما هذا...إلخ.
أليس كذلك؟"
وأنا أقلب صفحات الكتاب بين يديّالآن، رأيت الكثير مما يُقتبس، وراودتني نفسي على الكتابة أكثر، وبدأ عقلي يفكر بترتيب ما أعرض فيه ما تبقى من حديثي وشعوري بشأن هذا الكتاب. ثم عدلت عن رأيي، هذا الكتاب تجربة إنسانيّة ثرية، عليك قرأته لتمر بها، وغالبًا ما ستراه فيها أنت غير ما رأيته أنا، وما سينحته الكتاب في تلافيف ذكرياتك قد لا يمت بصلة لما نحته في تلافيف ذكرياتي، لكننا سنرى نفس الصورة التي رسمها لها حينما عاد ورأى رام الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق