الاثنين، 11 مارس 2013

الفيل الأزرق



 .

.

.

 


تشوّقت أنا مع صدور الفيل الأزرق، خاصةً مع رد الفعل الإيجابي الذي قابلها به الناس، والانبهار الغريب الذي حلّ بهم بسببها، ولذا بنيتُ آمالاً عريضة قبل قرآتها، وربما لمدى عرضها لم ترقَ الرواية لتوقعاتي .. 

بعض الجنون
أحد أسباب حماسي للرواية هو معرفتي بأن بطلها طبيب نفسي، وأنا عوالم الرواية تدور في هذا الإطار، الذي أفضله، وأفتقد وجوده في عالمنا العربي .
وتبدأ الرواية مع يحيى وعالمه الغريب، فالبطل أذاب كل آلامه وآماله بل ووجوده نفسه في كؤس الكحول وفقاعاته ، ثم نتعرف تدرجيـًّا على ما هنالك، حادثة قديمة، مستشفى العباسيّة، جريمة قتل، وصديق مريض نتأرجح معه في غياهب الجنون.
أعتمد مراد على التشويق التصاعدي للرواية، لاعبـًا على أوتار فضول القارىء، ونجح في ذلك، لكن الأوتار لم تصدر سوى النشاذ، فبعد ما أعتبره أقرب للذروة مع شكنا بأن البطل نفسه مختل عقليـًا، قلب مراد الطاولة على الرؤوس في تحدٍ لمخالفة كل ما توقعنا، فكل ما يحدث هو أن رفيقه بمنتهى البساطة..ممسوس ! 

                                                                  ،، 

خزعبلات
بعد محاولات الكاتب في جعلنا "نتذوق كوكتيل ألم..بلا ثلج"، وبعد إدخالنا في متاهات الطب النفسي، حوّل الدفة وأكتشفنا أن كل ما يحدث لصديقه بسبب تاتو/طلسم جعل الشيطان يمس رفيقه، وبالتالي كان قتل زوجته و كل أعراضه التي تدل على وجود فصام غير معترف به طبيـًّا.
صحيح أن ما فعله مخالف لتوقعات القارىء لكنه برأيي أنقص من قيمة الرواية، أضاع مجهوده واستشاراته في الطب النفسي، وأصبحت المفاجئة المفروض فيها نقطة قوة، نقطة ضعف قسمت الربع الأخير من الرواية وجعلته غريبـًا مهلهلاً خارجـًا عن السياق، لِمَ لا .. ومعظمه هلاوس وخزعبلات ! 
                                                        
                                                                             ،، 

جيد أم سيء
الرواية -مع نهايتها المغيظة- تجعل من السهل جدًا على القارىء أن ينقلب عليها وعلى من كتبها، لكن في محاولاتي لأبتعد عن التحامل عليهما، سأفند ما أحببته فيها وما أراه يضعف الرواية..
 الأسلوب: لا أعترض أنا على وجود الحوار بالعامية، فهذا اتجاه مراد منذ البداية، ربما يوّصل هذا أفكاره وأبطاله بشكل أفضل. بالنسبة للغة الوصف والمنولوج الداخلي معظمها جيد، لاحظت تطورًا عن تراب الماس فيها، لكن التفاصيل كانت أكثر مما ينبغي، حتى أني أتساءل َمن هُم ذوي الخبرة الذين أستشارهم في كل هذه الأنواع من الكحول وحبوب الهلوسة؟
يوجد بعض التشبيهات التي راقتي، وبعض الألفاظ التي شذت في وسط الفصحى !

الشخصيات:  هذه مشكلة في حد ذاتها، فرواية قاربت 400 صفحة، لم أتعاطف مع أي شخصيّة فيها، حتى البطل يستحق الحرق بجدارة فهو سكيّر ومقامر وسبب في قتل زوجته وابنته وضحية قصة حب فاشلة.. ثم ماذا ؟؟
ما الذي يجعلني أقضي وقتي مع بطلٍ كهذا، حتى الكراهية لم تكن عميقة، بصراحة أرى كل أبطال الرواية مستفزين ماسخي الطعم، وهذا ضعف هزّ الرواية بشكل كبير.

الحبكة: في البداية جيّد، الربع الأخير من الهلوسات والخزعبلات-كما أسلفت- أضعفها. الفيل الأزرق يبدو برَّقـًا كتجربة، لكن وجوده غريب وغير مقنع، هذا الكائن العملاق يمّر في برزخ فيرى يحى تاريخ ما حدث وبالتالي يفهم ما حدث، أحقــًّا؟؟
مرور الفيل الأزرق من البرزخ أجده أقرب لولوج الجمل في سم الخياط !  


تقييم عام: الرواية مشوّقة وهذه أهم نقاط قوتها وسبب ضجتها وهذا ما يلعب عليه الكاتب،
 لغة لا بأس بها، تشبيهات جيّدة، حوار يتأرجح بين البذاءة والعمق أحيانا، تفاصيل مغرقة أكثر مما ينبغي،
مجهوده واضح لكن هذا ما جعلني أتوقع عملاً أفضل ! 

                                                           ،،     ،،

دوريان جراي - خير الجمال هو الجمال المحتمل






يتغنى البعض بجمال الروح الذي يفوق أهمية جمال الجسد ، و يثرثر آخرون عن أن الجمال ما هو إلا انعكاس لروح طاهرة .. و يكفر البقية بالمبدئين فلا يربط برأيهم هذا بذاك ..أبدًا !

                                                      ،،

كـ جمال آلهة الأوليمب


في مرسم بازيل تبدأ أحداث روايتنا كما تتشكل الخطوط الأولى لـ صورة / لوحة  دوريان جراي ، و قد بثها بازيل شغفه و فنه كما لم يفعل من قبل !
دوريان جراي الفتى الوسيم  غض النفس مفطور على الخير ..صديق بازيل الرسام الذي يعرفه يومها على هاري/اللورد هنري الذي يبهره جمال دوريان كما يفعل مع الجميع ، و يشعر بالفضول لرؤية  تأثير فلسفاته الغريبة على مثال مبهر كـ هذا ، و يبدأ باللعب على أوتار نفس دوريان .. أوقظ بداخله وحوش الفضول النهمة للحياة ، بعدما أثرَّ عليه بفلسفته الرنانة عن الحياة التي تكون أجمل حين تبحث على اللذة ، عن فلسفة " شفاء النفس عن طريق الحواس .. و شفاء الحواس عن طريق النفس " .. أثناء بث السموم في نفس الفتى أنهى بازيل الصورة ، و صُعِق دوريان بما رأى فقد بهرته روعتها .. و أفاق لأول مرة على حقيقة جماله الآثر و تأثيره الأكيد على كل من حوله ..
فما كان من دوريان بعد الانبهار بجماله  إلا الذعر من فقده .. و أراد لو يمزق اللوحة  فجمالها خالد بعكس جماله ،
تمنى بمرارة أن تحمل هذه الصورة  كل آثار الزمان بدلاً منه .. و كما الأساطير ، تتحقق أمنيته !

                                                       ،،


هي صورة كل الأحزان


قد تبدو أسطورية / فانتازية أقرب للسخف لو صيغت بشكل مختلف ، لكن أسلوب " أوسكار وايلد " شيق إلى حد لم أتوقعه .. لن تملك أنت ذاتك - حين القراءة – القدرة على الفكاك من جمال دوريان الآثر، و ابتسامته الدائمة و خلقه الدمث ، بازيل كان محقـًا حين وجد فيه غاية إلهامه و المثال الكامل لفنه ..
لكن هاري و رغبته في تحليل و مراقبة هذا الجمال يحى بفلسفته كان له عظيم الأثر على نفسٍ غضة كهذه ..
و منحدرالسقوط خطا دوريان نحوه حين انبهر بجماله !
" بدأ يتذوق القبيح لأنه يقترب بالإنسان من الواقع بعد أن كان ينكر القبيح لأنه يقترب بالإنسان من الواقع ، بل وجد أن القبح هو الحقيقة الوحيدة في الحياة ، فالألفاظ النابية التي يسمعها في كل شِجار ، و البؤر النكراء، و فظاظة الحياة المضطربة و قسوتها، و خسة اللصوص و وضاعة الأوباش و المنبوذين، كل هذه بدت له أصدق من النماذج الجميلة التي يختلقها الفن اختلاقـًا ! "
فـ دوريان أصبح نهمًا لكل لذة ، كان يجد في نفسه متعة بأن يختار من أصدقاءه أشرفهم و أذكاهم ثم يجرهم لهاوية الرذيلة ، أصبح دوريان صنيعة إبليس حقـًا .. و إلى حدٍ مخيف !
" كان يجد في الشر أحيانـًا ما يحقق فكرته عن الجمال " !!
ستظل فصولاً طويلة مشدوهـًا بتغيّر دوريان، حائرًا مِن فلسفات هاري السامَّة ، مذعورًا مِن المسخ الذي أضحت عليه اللوحة التي رسمها بازيل .. فـ آية الجمال و الفن أصبحت جيفة مثيرة للاشمئزاز !
فكل ذنب اقترفه دوريان خطَّت بشاعته أثرها على اللوحة .

                                                  ،،


هي وجه بلا قلب


" و من ظلال الليل تخرج حقائب النهار التي نعرفها فنستأنف الحياة التي تركناها، و يغمرنا إحساس بوجوب المضي فيما تعودنا من أعمال رتيبة ومملة، أو نرجو أن نفتح الأجفان ذات صباح فنجد عالمـًا ألوانه زاهية و أشكاله جديدة و أسراره على غير ماألفنا من أسرار، عالمـًا لا أثر فيه للماضي و أو لذكراه .. "

وبعد الشغف بكل ما هو مادي و غريب ، وبعد الركض كمن يركض على صهوة جواد بلا زمام ..
وجد دوريان حياته بلا معنى ، شعر أنه عبءٌ على نفسه .. أن ماضيه و ذنوبه تثقله، و لم يحتمل أن يلومه أي شخصٍ  على  ذلك .. لم يطق أن يأتي بازيل يعظه سائلاً إيه الاعتراف بذنوبه و مِن ثم التوبة لله، بعدما رأى المسخ الذي أصبحت عليه لوحة دوريان الباهرة ..
لم يسمح دوريان أن يوقظ أحدهم ضميره .. و ما أثار فيه حديث بازيل إلا بغضـًا كاسحـًا جعله يقتل بازيل في لحظة جنون !

" هذه الجريمة كانت كابوسـًا لابد من محوه مِن سجل الذكريات، هذه الجريمة كانت شبحـًا مزعجـًا و ما يزال قائمـًا
لابد أن ينام نومـًا أكيدًا أو يختنق بحبل النسيان و إلا خنق صاحبه " !
سيقتل دوريان .. أي شيء يذكره ببشاعة ما يفعل، و بعد محاولة فاشلة للعودة إلا براءة النفس الطاهرة .. أثار جنونه ألا تقّدر الصورة محاولته هذه .. و قتل مرة أخيرة ، طعن الصورة، التي تنضح بروحه .. فمات !

                                                  ،، 


أوسكار وايلد .. عبقرية فنان

مَن لم يقرأ الرواية بتفاصيلها –التي أغفلت معظمها- لن يشعر بمدى جمالها.. و رغم الكلاسيكية الأقرب لقصص الأطفال و حكايا الأساطير – في أمر ارتباط روح دوريان بالصورة – إلا أن الرواية صيغت بعبقرية أدبية حقـًا ،
و أكثر ما يثير انبهاري و إعجابي هذه العبقرية التي وجدتها في الرواية ..
فالحبكة محكمة رغم بساطتها، تسلسل الأحداث مشوق جدًا رغم إغراقه بالتفاصيل ..
و شيء آخر راقني جدًا و جعل الرواية تنبض بالحياة ألا وهو جوهرية الحوار فيها، فمعظم أحداث الرواية نعرفها خلال الحوار أو المنولوج الداخلي، وقلمّا نجد سردًا مطوّلاً.. و الحوار دومـًا ما يكون شيقـًا على لسان الشخصيات التي لا تقل مهارة إتقان رسمها عن كل ما ذكرت .. فالشخصيات المحورية بتنوعها و ثرائها الإنساني/النفسي مميز إلى حدٍ مثير ستعيش مع شخصية دوريان المركبة، شخصية هاري الغريبة المتفلسفة و شخصية بازيل بعبقريته الفنية و براءته حد البغاء .. التي جمعت بالقش و النار معـًا ..فاحترق دوريان بجماله !     

                                                   ،،