كان منزل جدتي القديم به حديقة، أو كما
يسمونها في سوريا "أرض دار"، وهي تختلف نوعًا عن الحديقة كما اعتدنا
عليها، فبعد الخروج من المنزل ستجد باحة واسعة وبعدها تبدأ منطقة الطين التي تحوي
المزروعات والشجر. قضيت في تلك الحديقة الكثير من أجمل أيام طفولتي، كنت أحب
الاستيقاظ على صوت الطيور يوميًا، لأن شجرة التين العملاقة كانت مأوى لمئات
الطيور، وأحبها مساءً حينما تداعبنا نسمات الصيف، فصيف سوريا وحمص بالتحديد ليس
شديد الحرارة والرطوبة كصيف القاهرة.
في تلك الحديقة كان هناك كائن ما، لا أدري
إلى أي فصيلة ينتمي، لكنه قريب جدًا من الدود، كانت حشرة سوداء اللون، تمشي ببطء
شديد كالدودة، وإذا ما حاولت دهسها أو حتى شعرت باقترابك منها تتقوقع! أجل حرفيًا
تتقوقع، أو تتكوّر أو سمّها ما تشاء، فهى تتحول إلى كرة مكتملة شديدة التماسك، حتى
أنه يصعب التصديق أن تلك الدودة تحولت إلى هذه الكرة! والحقيقة أني أكره الحشرات
جدًا، وأعاني حالة تقارب الفوبيا منها، وكلما رأيت حشرة يبدأ جسمي بالشعور بالحكة
وكأن الحشرات هاجمتني واجتاحت أسفل جلدي! لكن هذه الحشرة لم تجعلني أشعر بهذا،
جعلتني أجلس وأتأملها منبهرة! كان الصغار من أقاربي كلما وجدوا واحدة ذهبوا
ليدهسوها أو بالأحرى ليحاولوا دهسها حتى تتكور، فهم يستمتعون باللعبة، وكنت أنا
أقف بصمت ودون حركة حتى أراها تعود لتفرد نفسها من جديد وتمشي كأنها لم تكن كرة
منذ ثوان!
كنا نكرر اللعبة كثيرًا معها، حتى أني أشفق
عليها الآن من مدى ساديتنا ونحن صغار، فكلما فردت نفسها يهاجمها أحدنا لتتكور من
جديد! المشكلة الآن أني لا أملك أدنى فكرة عن الاسم العلمي لهذه الحشرة سواء
باللغة العربية أو اللغة الإنجليزية. كل ما أعرفه عنها أنها تمشي وتتكور، واسمها
المعتمد في سوريا هو "أم علي الدعبلي"!! واضح أن القسم الثاني من الاسم
أتي من قدرتها على "التدعبل" أي التكوّر :D ! أما عن القسم الأول فلم تسعفني قدراتي على
الاستنتاج على معرفة سبب تسميتها به. لا أدري ما الذي ذكرني بها منذ بضعة أيام،
ربما لأني أتقوقع وأتكوّر مثلها، كلما شعرت بخطرِ ما، وأتكوّر كلما انزعجت، ربما
لأني أشعر أن التكوّر سيجعل دهسي أكثر صعوبة كحال المسكينة أم علي الدعبلي. لسبب
ما أشعر بأن خطوب الدنيا تعاملني كما كنا نعاملها. تنتظر أن انتهي من تقوقعي وكلما
بدأت بالمشي تعود لمحاولة دهسي مجددًا، لأتكور وتقف هي لتتأملني وتتسلى على تقوقعي
ثم محاولتي لفرد نفسي. وأنا أتخيل هذه الصورة أتت صورة مضحكة أخرى لخيالي وهي أن
تلك الخطوب شبيهة بالعمالقة في أنمي Attack on Titan لها أطوال وأشكال وطبائع مختلفة، بعضها غبي لا
يفهم، وبعضها يحمل ذكاء البشر وشرورهم. ولسبب ما أيضًا تذكرت إحدى المشاهد التي
حُبس فيها بعض الجنود في بناية ما، وحينما اقترب العمالقة قرر أحدهم الانتحار
مفضلاً الموت على مواجهة العمالقة وهو أعزل.
المفترض أن تلك الصورة الأخيرة تجعلني أشعر بالبؤس وقلة الحيلة لكنها جعلتني أضحك
بشدة، ولا أقول هذا لأجعلك تؤكد ظنونك باختلال قواي العقلية، لكن لأن شكل أولئك
العمالقة مضحك! كل من تابع الأنمي بالتأكيد يدرك أن شكلهم مضحك، ومهما كان المشهد
مأساوي وأيًا مَن كان الشخص البائس الذي يُأكل يبقى شكلهم مضحك !!
انظر لهذه الصور مثلاً:
أتمنى أن أضحك هكذا كلما خرجت من حالة تقوقع
ورأيت خطبًا عملاقًا يحاول التهامي، سأحاول تخيله كهذه العمالقة المرحة مبهجة
الشكل ربما يهوّن هذا من سوء الموقف. من الأفضل أن يأكلونني وأنا أضحك بهستيريا
على أشكالهم العجيبة!
"بين
المكتبات وأصحابها جدل حاد برغم صمته، مرير برغم حرارته، يومًا ما ستقف أمام ما
دفعت فيه دم قلبك من كتب لتسأل نفسك هل سيأتي اليوم الذي تنهي فيه قراءة كل هذه
الكتب؟ قبل أن تجيب ستباغتك نفسك بسؤال ألعن وأضل "هل تتذكر أساسًا ما قرأته
من كتب لكي يشغلك همُّ ما لم تقرأه؟"، سؤال مضني ممض مرير موجع، كنت أظن أنني
وحدي الذي أعاني من وطأته، معتقدًا أنني دون غيري أحمل ذاكرة رديئة التجميع لا
تنشط إلا في النسيان، نسيان الكتب التي لم أرد يومًا أن أنساها."
- بلال فضل، في
أحضان الكتب.
كانت هذه الفقرة
في بداية مقال بعنوان " حتى لا تنسانا الكتب!" ذلك المقال الذي
عنى لي الكثير كما استنتج كاتبه في أول سطرين منه. فبيني وبين مكتبتي هذا الجدل
الصامت. والواقع أني لست بحاجة لأقف أمامها حتى يبدأ هذا الجدل، فمكتبتي أمام
سريري بالضبط، أو لنقل جزءًا منها يقع في رفين مكتظين بالكتب أمام سريري، وفي
مستوى عيني فتكون من أول الأشياء التي أراها ، كلما حُييت من الموتى الصغرى
يوميًا. فأنا أيضًا أنظر لها واتساءل ما الذي أذكره من كل هذه الكتب؟ ما الذي
استفدته منها ؟ هل أصبحت مَن أريد أن أكون بفضلها؟ هل تحسنت حياتي بعد قراءتها؟ هل
أصبحت حكيمة زماني أخيرًا بعد ما كنت أقضي جل وقت فراغي في القراءة ولا شيء سواها.
إن لم تكن قد فعلت هذا فما فائدتها إذًا؟
مررت بفترة من حياتي
شعرت فيها بقلة الرغبة في القراءة، بقلة فائدتها وتأثيرها بي، حينها كنت أقول أن
الكتب لم تفدني بشيء وأني "كمثل الحمار يحمل أسفارًا". اقرأ ولا زلت لا
أفقه شيئًا في هذه الدنيا. حتى استمالني شغفي بالكتب مجددًا، وعدت للقراءة، وأنا
أقنع نفسي بأن تلك الكتب أثرت بي بالتأكيد حتى لو كنت لا ألاحظ ذلك بشكل مباشر،
حتى إن بقي ذلك التأثير في عقلي اللاواعي . كل تلك الحيوات التي قرأتها وخبرتها بسبب
الكتب لم تكن مجرد ثرثرة فارغة لم تغنِ تجربتي الشخصية.
في المقال يتحدث بلال
فضل عن مقال للكاتب الألماني "باتريك زوسكيند" صاحب الرواية الشهيرة
"العطر"، والتي لم أقرأ له سواها و أجزاء من المقال الذي اقتبسه بلال
ليحدثنا عن الأمر، وأنا جدًا ممتنة لأنه فعل.
في المقال يحكي
زوسكيند أنه اختار كتابًا عشوائيًا من مكتبته، وبدأ في قراءته واستمتع أيما
استمتاع بذلك، وأمسك بالقلم الرصاص ليضع خطوطًا تحت ما أعجبه وليكتب بعض الملاحظات
مع وصف جيد جدًا! ليكتشف أن الوصف موجود وكذلك الملاحظات، وكلها بخطه، رغم أنه لا
يذكر قراءته لذلك الكتاب من قبل!
"هنا أشعر
بانقباض مجهول، لقد استولى عليَّ المرض القديم من جديد، فقدان الذاكرة الأدبية،
الفقدان الكلي، وتغمرني موجة من الاستسلام للقدر لأتساءل عن جدوى كل السعي إلى
المعرفة، السعي عمومًا، لماذا نقرأ إذن، لماذا أقرأ مثلاً هذا الكتاب من جديد، إذا
كنت أعرف أني لن أتذكر شيئًا منه على الإطلاق بعد قليل، لماذا أفعل شيئًا على
الإطلاق، إذا كان كل شيء سيضيع، لماذا أعيش إذا كنت سأموت، أغلق الكتاب الجميل،
أنهض وأتوجه إلى رفوف المكتبة كالمنهار، كالمعذب، وأدس الكتاب بين صفوف مجلدات
الكتب الأخرى المجهولة، الشاملة، والمنسية.
.....
أجلس على كرسي مكتبي.
عار. فضيحة. أستطيع القراءة منذ ثلاثين عامًا وقرأت، إن لم يكن الكثير، إلا أني
قرأت بعض الكتب وكل ما تبقى منها هو ذكرى ضعيفة جدًا، عن شخص ما يطلق النار على
نفسه من مسدس من المجلد الثاني من رواية يبلغ عدد صفحاتها الألف. هل قرأت ثلاثين
عامًا عبثًا. آلاف ساعات طفولتي، شبابي وكهولتي أمضيتها في القراءة ولم أحتفظ منها
إلا بنسيان شامل، ولو أن هذه الكارثة تضمحل، لا على العكس إنها تسوء، إذا قرأت
اليوم كتابًا أنسى بدايته قبل أن أصل إلى نهايته. أحيانًا لا تكفي قوة الذاكرة
لمتابعة مطالعة صفحة واحدة، وهكذا تطلع روحي فقرة فقرة، جملة جملة، وقريبًا سأصل
إلى حد لا أفطن فيه بوعي على الكاميرات المفردة التي تتدفق من ظلام نص يزداد غرابة
عليّ، تتوهج في لحظة القراءة كمذنبات لتهوي للحال في تيار نهر النسيان المعتم.
"
- باتريك زوسكيند.
منذ يضعة أسابيع
أخبرتني صديقتي أن رواية "بعيدًا عن الناس" ستتحول إلى فيلم، قلت لها أن
الاسم يبدو مألوفًا إلى حد ما، لكني لم أقرأها، فقالت لي أني قرأتها بالتأكيد !
تفاجئت، خاصةً وأني أتفاخر دومًا بذاكرتي القوية! ذهبت للـجود ريدز، ووجدت بالفعل أني
قرأتها منذ عام أو اثنين، ولولا أني أذكر صورة الغلاف لقلت أني ارتكبت خطأ ما
ووضعتها في رف ما قرأت وليس في رف ما أريد قراءته. بعدها بقليل تذكرت شيئًا من
القصة العامة للرواية. لكن الموقف نفسه أصابني بشيء من الرعب، سرعة نسياني لما
قرأت تزداد طرديَا مع مرور السنوات، ومع كثرة ما أقرأ. حينها قلت أني يجب أن أكتب
أكثر عمّا أقرأ ولو بضعة سطور أكتب فيها انطباعي العام عن الكتاب أو العمل الأدبي.
وهذا ما يتحدث عنه
زوسكينند في مقاله ..
" ...عليك
ألا تستسلم لفقدان الذاكرة المهول هذا، عليك أن تصمد بكل قوة في وجه سيل نهر
النسيان، عليك ألا تغرق كليًا في نص ما، بل عليك أن ترتفع فوقه بوعي واضح، ناقد،
عليك أن تستخلص منه أفكارًا، أن تدون ما يذكرك به، أن تقوم بتدريب الذاكرة،
وبكلمة، وهنا أقتبس من قصيدة مشهورة، سقط اسمها واسم مؤلفها من ذاكرتي في هذه
اللحظة، لكن سطرها الأخير محفور في ذاكرتي كإملاء معنوي دائم لا تمحوه الأيام، جاء
فيه: "عليك أن... عليك أن... آه، مصيبة، الآن نسيت الكلمات، لكن ليس هذا
موضوعنا، فمعناها حاضر لي فعلا، كان معناها تقريبًا عليك أن تغير حياتك".
أحببت المفارقة التي
أنهى بها المقال، فحتى بيت الشعر ذلك جرفه سيل النسيان من الذاكرة. لكني سأحاول
قدر استطاعتي تنفيذ وصيته، وسأدرب ذاكرتي وأستخلص أفكارًا، وأكتب عمّا قرأت. ربما
حينها ستتغير حياتي فعلاً ! لاحظت وأنا أكتب هذه التدوينة، أن هذه مقال تتحدث عن مقال يتحدث عن مقال! بدا لي الأمر غريبًا، لكني تغاضيت عنه لأنه يتفق مع محاولتي لتطبيق التغييرات الجديدة!
***
بمناسبة
الكتب وكثرة القراءة. منذ بضعة أسابيع كنت أتصفح موقع الـ Goodreads ، حينما رأيت إحدى من أتابعهن عليه أعجبت بتحدي عام 2015 لشخص آخر،
كان ذلك الشخص قد قرأ أكثر من 900 كتاب هذا العام، وكاد يصل للألف فعلاً!
ووجدت
تعليقات الانبهار على هذا الإنجاز العظيم! حتى أنا انبهرت للوهلة الأولى، ثم قلت
لا يمكن أن تنجز كل هذا القدر من القراءة إلا لو كانت تقرأ روايات جيب أو pop art ، أو كوميكس أو
مانجا، أو كانت تسمع كتب صوتية قصيرة معظم الوقت. وفتحت قائمة كتب ذلك التحدى
لأتأكد من صحة استنتاجي ولأرضي فضولي الشديد بالتأكيد، وإذا بمعظم الروايات قصيرة
تكاد لا تصل لمائتين صفحة، واستنتجت من الغلافات الأولى أنه بوب أرت رومانسي
فعلاً، حتى أتت بقية الأغلفة ليرتفع حاجباي وأقول بصوت لا أدري إن كان
داخليًا أم مسموعًا: !!Yaoi دخلت لأعرف أكثر عن صاحبة الملف فإذا بها
تعرف عن نفسها بأنها أم في الثلانيات والاعتناء بابنها ذي الستة عشر ربيعًا يلتهم
معظم وقتها. حينها ازدادت دهشتي وقال لسان حالي: لك ابن بهذا السن وتقرأين روايات
كهذه؟ هل تأخذينها من ابنك ورفاقه مثلاً أم ماذا؟؟!
غادرت
الموقع وأنا اذكر نفسي أن للناس فيما يعشقون مذاهب، ورددت المثل الذي تحب والدتي
العزيزة استخدامه كثيرًا،
"مو كل مين صف الصواني قال أنا
حلواني!!" ولا كل من قرأ ألف كتاب أصبح حكيم زمانه!.
بعد انتهاء نوفمبر كنت
أفكر بالتوقف عن كتابة هذه التدوينات، أعني تدوينات الثرثرة التي لا تحمل رأيًا عن
كتابٍ ما أو حتى فيلم ما، لكنها تحوي مجرد خواطر غريبة أو فلسفات عجيبة وردت
ببالي، وكأنّ هناك من يكترث بشأنها!
ورأيت أن المكان
المناسب لهذه الثرثرة هو يومياتي، أو ملفاتي التي احتفظ بها، ولا أطلع عليها
أحدًا. فمما كتبت في نوفمبر لا أدري إن أدرك من قرأها أي المواضيع كدت أبكي وأنا
أكتب عنها، وأيها كنت أضحك أثناء كتابتها. هذا إن وُجِد من يقرأها أصلاً.
لكني عدت وكتبت هنا منذ
بضعة أيام لسبب ما! في نشر ما أكتبه شيء من الشعور بالخلاص! شيء من الشجاعة التي
تتباهى بها أمام نفسك، ربما لا يوجد قراء فعلاً، لكني كنت شجاعة بما يكفي لإتاحته
على الملأ هكذا!
هذا مثير للسخرية
نوعًا، لأني لا أكتب أسرارًا يوصف إفشائها بالشجاعة، لكن دعني أطري نفسي، فهذا لن
ينتقص منك شيئًا!
،،
أمس كنت أحدث صديقتي،
وسألتني عن صحتي وأحوالي، فأخبرتها أن الوضع لم يتحسن كثيرًا، وبأني متعبة حقًا،
وكلما تحسنت من شيء، أصابني آخر، فسألتني ضاحكة مَن هذا الشرير الذي حسدني؟!
فسألتها إن كان حسدًا فعلاً، أجابتني بإجابة مطمئنة ألا وهي أن استمرار الأمر طوال
هذه المدة يرجح احتمال أنه "عمل"!!
مما جعلني أضحك كثيرًا،
فأنا اعتبر أن يحسدني شخصًا ما دون قصده احتمالاً واهيًا، فما بالكم لو كنا
نتحدث عن شيء يحتاج إلى تخطيط وتدبير وطاقة سوداء مثل "العمل"!
أهناك حقًا مَن يحسدني
على شيء ما؟ لا أنكر نعم الله عليّ فهى لا تحصى، لكن فكرة أن أكون موضعًا لأعين
الحساد فهذا حقًا مضحك.. جد مضحك! و يدل على أن الناس لا ترى أبعد من أنفها! هذا
يذكرني بالمثل الشهير "بيحسدوا إبليس على اللعنة!"
ولا أدري تحديدًا أي
لعنة يحسدونني عليها!
،،
مؤخرًا أشعر أن كل
مهاراتي تنسل من بين أصابعي، كلها..حتى الطهي! فمثلاً سترى هذه التدوينة مليئة
بالأخطاء النحوية التي لا أجد في نفسي بالاً رائقًا لمراجعتها، لأن أمر المراجعة
اللغوية بات مرهقًا ويحتاج مني لوقت وتركيز أكثر من السابق!
مهارة الكتابة
بالإنجليزية تراجعت، منذ شهرين تقريبًا، كنت ملتحقة بأحد الدورات المفتوحة التي
تعلمك الكتابة، صحيح أني وجدتها سيئة مقارنةً بأخرى ألتحقت بها منذ عامين، إلى أني
أكملتها حتى النهاية، وحتى أصل إلى أسبوع كتابة المقال النهائي. قبل الأسبوع
الأخير، تعرض نسخة أولية على زملائك وتتلقى التعليقات عليها، ولقد فعلت.
وقبل اعتماد المقال
النهائي، جلست لأنقحه فوجدت الكثير من الأخطاء اللغويّة، والركاكة في ترابط
المقاطع نفسها. صححت ما استطعت واعتمدته، ورأيت الدرجات التي منحها لي زميلاي
اللذان يعطيان الدرجات بطريقة الكورسات المفتوحة التي تضمن تعمية للطرفين. مُنحت
درجة نهائية في الجزء اللغوي. مُنحت الدرجة النهائية كذلك في الترابط وجودة
المقال. لكن كلاهما لم يرَ ما كتبت موضع تساؤل، بمعنى أنها ليست "Thesis"،
ولا يوجد مجال للتساؤل أو المعارضة، فمنحت "صفرًا" في هذا الجانب. لم
أنزعج لكني تفاجئت، كان ما كتبته عن "آية" الفتاة اليابانية التي تمكنت
رغم مرضها من إيجاد هدفها في الحياة، ونحن الأصحاء نتخبط في حيواتنا، متكلين على
طول الأجل، الذي لا يضمنه أحد. ألا يعتبر هذا تساؤلا وجوديًا ما؟!
ما الذي ينسل من بين
أصابعي أيضًا؟
مهراتي في الترجمة؟ حبي
وحماسي للعمل فيها؟ أجل، أشعر بهذا مؤخرًا. أتخبط كثيرًا ولا أعرف أي قرار يجب أن
أتخذ، أو أي اختصاص أفضل فأوجه نحوه جهودي، هل انتظر حتى أبرع فيما أحبه أي
الترجمة الأدبية؟ لكن يبدو أن مستواي فيها لن يرضِني قريبًا. أم أتعلم مجالاً
جديدًا لا أجد في داخلي أي شغف تجاهه؟ لمجرد أنه الأكثر انتشارًا في السوق. أم
أقحم نفسي بتسرع في مجال لطالما كنت أعده شائكًا وأتجنبه!
منذ بضعة أيام ترجمت
شيئًا لأجل عمل ما، وندمت لذلك ندمًا شديدًا، لم يكن ينبغي أن أدع التزامي بالعمل،
يجعلني أتخلى عن شيء أقتنع به. كنت أظن أنه يمكنني تجاهل بعض الأشياء والأخطاء
التي أقوم بها. لكني لا زلت كما أنا، كلما شعرت أني ارتكبت خطاءً يصبني الأرق
الشديد وإن نمت يغدو نومي متقطعًا إلى حد كابوسي، وتنكمش معدتي ولا تحتمل أي طعام،
وأرتجف بردًا مهما كان عدد الأغطية التي تدثرت بها.
وأنا صغيرة ربما كنت
أخشى من العقاب أو اكتشاف الآخرين للمصيبة التي ارتكبتها، وهذا كان سر توتري. لكن
في سني هذا لم يتغير شيء رغم أني من يحاسب ويعاقب نفسي.
ربما كان ذلك درسًا لن
أنساه أبدًا، وهو "لا تتخلى عن شيء تؤمنين به، لأجل شيء تريدينه بشده.
ستكرهين نفسك إن فعلت!"
يذكرني هذا نوعًا بإحدى
أغنياتي المفضلات من أنمي ناروتو، أغنية تتر النهاية الأول على الإطلاق، والتي
أحبها منذ سمعتها لأول مرة، في شتاء 2008.
Don't try to live so wise.
Don't cry 'cause you're so right.
Don't dry with fakes or fears,
'Cause you will hate yourself in the end.
وحينما يرد ببالي اسم
ناروتو، يأتي معه الكثير، أهمها شيء تعلمته من شخصية روك لي، طريقة في الحياة لم
أطبقها وتتعارض تمامًا مع الأشياء المذكورة أعلاه. لابد أني سأتحدث عن العزيز
الملهم "روك لي" يومًا ما، لكن لأؤجل هذا قليلاً، حتى أذكر ما تعلمته
منه وطبقته! عليّ أن أتحدث عن ناروتو كثيرًا، ربما يعيدي لي هذا شيئًا من شغفي!
،،
هذه الأيام كل صديقاتي
اشتقن لي فجأة ويردن لقائي :D !
يحدث هذا كثيرًا، أظل
شهورًا دون لقاء إحداهن، ثم يتذكرنني كلهن فجأة! مما يعني أني قد أمضي 3 شهور دون
لقاء إحداهن، ثم ألتقي بثلاث منهن في أسبوع واحد! منذ بضعة سنوات كنت أرجح أن سبب
هذا هو الدراسة والامتحانات، فهن مرتبطات بجدول دراسي وامتحانات، وطبيعي أنهن سيتفرغن
في الأوقات نفسها. لكن الآن وبعد انتهاء الدراسة أحتاج لتفسير هذه الظاهرة الكونية!
لاحظت مؤخرًا أني أثرثر
أكثر حينما أكون مع صديقات أختي الصغرى، رغم فارق السنوات الست بيننا، حاولت البحث
عن تفسير محدد، لكن تفكيري لم يسعفني بالكثير، وحينما أسعفني أحد التفسيرات كان
مؤلمًا! وهو أني لا زلت أعاني من نفس المشكلات والتساؤلات التي يعانين منها هن، أي
أن فارق 6 سنوات، لم يجعلني أسبقهم بمراحل ما في حياتي!
بحثت أيضًا عن سبب عدم
ثرثرتي مؤخرًا مع صديقاتي، وبأني أذهب أبتلع كلماتي وأعود بها دون نقصان لتسبب لي
عسر وجود، ربما لأني لا أجد المناسبة لقول ما أريد! حقًا! إن كانت تحدثني عن
حماتها الشمطاء و متاعب الحمل كيف سأحدثها عن مشاكلي الوجودية وتساؤلاتي الفلسفية؟
ولا أسخر هنا بشأن
الحماة الشمطاء أو متاعب الحمل، بل على العكس، هذه المشاكل واقعية ولها أبعادها
المحسوسة والملموسة.
كيف سأنتقل من هذه
المشاكل الواقعية المخيفة، إلى مشاكل دخانية اخترعها فراغ عقلي؟ سيبدو هذا غريبًا
!
،،
اكتشفت الآن وأنا أعاين التدوينة أن عنوانها هو "عليك أن تغير حياتك!" كتبت هذا العنوان في الصباح وذهبت لقضاء أشياء أخرى! كنت أشير بهذا إلى مقال معين أود التحدث عنه إليه جانب أشياء أخرى! ولاحظت الآن أني تحدثت عن الأشياء الأخرى عدا الشيء الأساسي الذي كنت أريد التحدث عنه!
وفي هذا دليل على شيء ما !! حسنًا ربما سأتحدث غدًا عمّا كنت أريد التحدث عنه اليوم!
منذ بضعة أيام كادت تقارب الأسبوع، خطر ببالي زميل قديم، ولا أدري في الواقع ما الذي ذكرني به أو بهذه الأيام عامةً، لأن الذكرى تعود لأكثر من عشر سنوات، إلى أيام مدرستي الابتدائية، والتي كانت عجيبة بعض الشيء، لكن والدي فضّل إلحاقي بها على انتظار مدرسة أخرى تقبلني العام القادم، فمعظم المدارس لم تقبل التحاقي بها لأني من مواليد أغسطس وسني أصغر من المسموح به. كانت المدرسة مختلطة، بها فتيان وفتيات، ولسبب ما كان عدد الفتيات يقل كل عام عن سابقه، حتى غدت الفتيات في الصف عددهن أقل من عشر، وتكفي مقاعدهن أن تكون في صفٍ واحد، بينما الصفوف الثلاث الباقية في الصف يحتلها الفتيان. لكم أن تتخيلوا أن تلك الفتيات لا يكن دائمًا الصديقات الأفضل، وليس هذا ذمًا فيهن لا سمح الله، لكني أذكر مرور سنوات دون شعوري بالراحة لوجودي مع تلك الصديقات لاختلاف في طبائعنا، لكن على المرء أن يجد من يجالسه حينما يكون صغيرًا وإلا اعتبروه متوحدًا وغريبًا .. أو غيرها من الافتراءات. كان اسم ذلك الزميل هو تامر، كان صبيًا لطيفًا مجتهدًا، على شيء من الوسامة ببشرته البيضاء وشعره الأملس، حينما كنا صغارًا كنا أنا وهو وبضعة زملاء آخرين نعتبر من أوائل الفصل المجتهدين ....إلخ! قبل أن ابدأ أنا باتباع طريقة "أدرسي ما تحبين فقط، وليحدث ما يحدث!" لم يدمر هذا مستواي الدراسي، لكنه ربما أفقدني تميزي في المواد التي لا أفضلها.
لكن حتى مغادرتي للمدرسة بعد الصف الأول الإعدادي كان تامر محتفظًا بتميزه وتفوقه، محافظًا على طبيعته المرحة ولطفه مع الجميع، حتى أنه ينتابني الفضول بما حل به الآن كلما خطر ببالي. في إحدى سنواتي الأخيرة - ربما الصف الخامس أو الأول الإعدادي- صادف أن مقعدي كان بجوار مقعد تامر مما جعل فرصة الثرثرة من حين لآخر أكثر حدوثًا. ولأخبركم الآن بإحدى الأشياء التي كان يفعلها دومًا، وهي أنه كان يحضر في حقيبته كل كتب المدرسة والدفاتر وفي بعض الأحيان الكتب الخارجية أيضًا، كانت حقيبته المسكينة تنوء بحملها كل يوم، ويعاني ليغلقها قبل مغادرته، وغالبًا ما يسرع مغادرًا مع أستاذة حافلة المدرسة قبل أن يغلقها. في إحدى المرات سألته لماذا تحضر كل الكتب والدفاتر؟ لماذا لا تحضر فقط ما سنحتاجه اليوم كما نفعل جميعًا؟ فأجابني ماذا لو احتجنا لشيء ما فجأة ؟ ماذا لو غاب إحدى المدرسين فأتى مدرس آخر وأعطانا درسًا جديدًا أو لم يأتِ أحدًا فحينها قد يحتاج الكتب للدراسة! وهذا أهون من تحضير ما نحتاجه يوميًا ! ... لا أذكر أني أجبته يومها، لكني شبه واثقة من أن لسان حالي كان يقول لا يوجد شيء يستحق أن تفعل بظهرك هذا يا فتى !
لأن ذلك الجزء بداخلي لم يتغير. هناك أشياء لا تستحق عنائي لأجلها ! هناك أشياء حتى لو بدت جوهرية للبعض لا أرى أنها تستحق أن أبيع راحتي وسعادتي لأحصل عليها! هناك أشياء لا أقبل أن أقتطع أجزاءً من ذاتي لأصل لها!
ما تذكرته هو موقف بعينه، لكني كنت أعطيكم المقدمة المناسبة لتعرفوا عن من أتحدث. كنا في حصة تربية رياضية، أو كما نسميها في العامية (ألعاب). كان أستاذ الألعاب يومها يصر على أن نركض جميعًا، وأذكر أننا ركضنا جميعًا، مرتدين زي ألعاب قطني باللونين الأصفر والزيتي. ويومها أيضًا لم يترك أستاذ الألعاب تامر وشأنه وأصر عليه بأن يركض أكثر، هنا أخبركم بشيء أغفلت ذكره وهو أن تامر كان على شيء من البدانة، ليس بشكل مبالغ فيه، لكن لا يمكنك اتهامه بالرشاقة، وذلك اليوم لم يتحمل كل ذلك المجهود الذي طلبه منه الأستاذ، أو لنقل نفذت أنفاسه أسرع من بقيتنا، وحينما حدث ذلك بدأ بقية الصف بالضحك على وضعه وبقول بعض التعليقات الساخرة، حتى أن ابتسامته ومثابرته تلاشتا، ودمعت عيناه فجأة ثم بدأ بالبكاء.
لا أذكر أني كنت ممن ضحك أو علق، وأتمنى ألا تكون ذاكرتي الانتقائية تقوم بعملها الآن، لأن ما حدث مزعج وطفولي جدًا، وحتى لو كنا أطفالاً لم يكن يليق أن يحدث شيئًا كهذا.
والواقع أني لا حينها ولا اليوم أجد ما فعله أستاذ الألعاب خطأ، كان يحاول أن يحسن لياقته، ويعلمه أنه لو ضغط على نفسه قليلاً سيتمكن من المواصلة أكثر. لكن ما أعجبني حينها، وما كتبت هذه التدوينة لأجله هو ما قاله الأستاذ للزملاء الضاحكين.
"بتضحكوا على إيه يا خايب منك ليها؟
تعرفوا تبقوا زيه؟ تعرفوا تجيبوا درجاته؟ "
هذا ما أذكره، لكن أظن ما قاله كان أكثر، وكان الأمر يستحق.
حقًا بأي حق يضحك أحدٌ على شخص آخر لمجرد أنه لا يطابق المواصفات القياسية لمجتمعنا أو له هو شخصيًا ؟
سواء كنا نتحدث هنا عن زيادة الوزن أو غيرها! عن الافتقار للياقة البدنية أو عن الافتقار لشيء آخر!
يسير بعض الناس يضحكون على الآخرين، دون أي مراعاة لما قد يسببه هذا لهم، ودون أي بعد نظر لما يملكونه حقًا.
كثيرًا ما أود أن أصرخ في الضاحكين وأسألهم أتستطيعون أن تكونوا مثله ؟ أجل..أتستطيعون أن تكونوا مثل مَن تهزئون به ؟؟!
من يتابع المدونة منذ افتتاحها، سيلاحظ
بسهولة أني من محبات "كاظم الساهر". تقولون لا يوجد متابعين أصلاً –وهذا
شيء أجده مريحًا أحيانًا-! حسنًا، لنعيد صياغة العبارة، من يعرفني جيدًا يعرف أني
من محبات "كاظم الساهر"، وحينما يُذكر اسم كاظم، فغالبًا ما يتذكر الناس
القصائد الشهيرة التي غناها، ويتبادر إلى أذهانهم أغاني مثل: أنا وليلى، والحب
المستحيل، ومدرسة الحب، ولا أنكر أني أحب هذه الأغاني، لكني أحب أيضًا أغانيه
القديمة، التي يحمل بعضها روحًا مرحة مثل:
"يضرب الحب" و"منين أجيب إحساس" وغيرها، ويحمل البعض الآخر
بؤسًا شديدًا، وخاصةً المواويل. وبشكل عام أحب الفولكلور العراقي وأغنياته
ومواويله، لأنها وبالتعبير الدارج "بتوجع القلب". أمس كان مزاجي معطوبًا،
ووجدت نفسي لا شعوريًا استمع لموال اسمه "يالحبيب يا يابه" أو كما يُسمى
اختصارًا "محاني"، لأنه الشيء الأكثر تناغمًا مع شعوري ..تعلمون تلك
الكآبة التي تريد أن تتلاقى مع كآبات أخرى ليقيموا حفلاً يقتاتوا به على ما تبقى
من روحى.. وأتماهى أنا مع سطر "إليك عين وتسأليني يا دنيا..إيش هالمغنى
الحزين، إيش هالكآبة!!" أيما تماهي !.. وبعد انتهائي من سماعه، وجدت موالاً
باسم "أطفي وارد أشتعل"، والذي اكتشفت بعدها بقليل أن اسمه أيضًا
"دربك صعب".. والواقع أن هذا الموال أيضًا مس وترًا حساسًا داخلي، لأنه
بشكل ما، يعبر عن فلسفاتي في التعامل مع الأمور..
أطفى وأرد أشتعل... ما أشكى من دِنياي.
حِملى وأنا اتكفله... ما أريد عونه وياى.
قالوا لى دربك صعب... قلت القِدم مشَّاىَّ.
قالوا لى رمل وشمس... قلت أنا أصير فياىَّ.
رمل الصحارى برد... ورمل النهار كوَّاى.
مِحَمْله القوافل حِزِن... ومحتاجه لحدَّاى.
قالوا لى احسب لها ...همومك ، تراه اهواى.
والله يعلم بما ...سوى الزمان وياى.
شفت الهوايل شفت... بوياي يا بوياى.
أتقطَّع ولا أونِّ... وونِّى يفرح أعداى.
ولمن لم تسعفه قدراته على الاستنتاج، "فياي" أي أنه سيصبح هو ظله وليس بحاجة لشيء آخر يستظل
به، "حداي" هو الحادي الذي يقود القوافل، "ون" أي أنّ من
أنين..
مَن يحب السخرية، أو مريض بها، الآن الوقت المناسب، فأي أهوال رأيت؟ ويمكنه الإضافة
أيضًا أني أصلاً Drama queen ولا يحق لي القول بأن هناك أي ترابط بين هذا
الموال وفلسفاتي في الحياة !
خاصةً، وأني قد أبدو للبعض بكّاءة، شكّاءة، وهذه المدونة خير دليل على ذلك، ربما
مَن يقول هذا محقًا، حينما أريد ممارسة دور ملكة الدراما، أحيانًا آتي لأكتب هنا،
وأحيانًا أكتب في دفتر مذكراتي، الذي أكتب فيه بين الحين والآخر.
آه، أعترف أني لم أرَ شيئًا يرقى إلى مستوى الأهوال، لا داعي لحبك الدور إلى هذا الحد
المبالغ فيه XD !
التماثل يكمن في السطور الأولى تحديدًا، أحب أطفي وأشتعل وحدي، أفضل التكفل بحِملي
وحدي ولا أريد من يعاونني، وليس ذلك نتاج انعدام ثقة، أو لثقتي في قواي الخفية،
ولكن لأني أرى هذا التصرف هو الأمثل، لا داعي للتعود على وجود من يعاونني، فتصبح
عضلاتي ضعيفة حتى تصل للضمور، فإن ذهبوا أجد نفسي أحمل أثقالاً لم أعتد عليها،
فأنهار تحت وطئها، التدريب الدائم لعضلات التحمل يجعلها أقوى، حتى لو أصابتك بوجع
شديد في البداية، ما أرسل لي أفضل تحمله وحدي، لأخرج منه أقوى، لا لأخرج منه أكثر
اعتمادًا على مَن حولي، هكذا يمكنني أن أرى حكمة ما فيما حدث، وأصبر نفسي بذلك.
أذكر منذ عدة سنوات أني كنت أسمع أغنية "أوعدوني" لحمزة نمرة، وحينها
طلبت مازحة من أختي الكبيرة أن "تعدني" .. لكنها رفضت أن تفعل، قالت لي
أنها لا تسطيع وعدي بشيء لن تقدر على تحقيقه، وأن لها بيتًا وعائلةً وأطفالًا بحاجة
لها، ولا تدري ماذا تحمل لنا الدنيا بعد، طلبت هذا من "أخت" كما ترى،
وليس من صديقة، ورغم ذلك لم تقبل، وكانت محقة، الآن كل واحدة منا في قارة، ومهما
سهّلت علينا التواصل تكنولوجيا العصر الحديث، لا زال ينقصه الكثير، أو بالأحرى، لا
زال لا يعادل أن يكون الشخص ذاته بجوارك.
وبالنسبة للحمول والأهوال، لا أفضل أيضًا أن
أحكي ما يؤلمني، خاصةً لو كان ألمًا داخليًا، وليست إصابة جسدية ما، فالأخيرة
مفهومة، وليست بحاجة للكثير من الخيال ليتفهم الشخص الماثل أمامي ما أريد قوله.
لكن الآلام الأخرى، الآلام الناتجة عن نخر داخلي استمر شهورًا و ربما سنوات لا أثق
بقدرة الآخرين على فهمه، وحتى إن فهومه لا داعي أن أصيبهم بألم على ألمهم. لأني
أصبحت أرى مَن حولي بالكاد متماسكين ليستطيعوا الوقوف على قدميهم.. أذكر أني كتبت
كلامًا مشابهًا في إحدى المدونات القديمة، التي تلاشت مع إغلاق الموقع الذي كانت
عليه، كتبت حينها أن أمر الفضفضة لشخص آخر قد يلقى ردين مختلفين، الأول هو التفاعل
الشديد، وهذا غالبًا ما سيحدث إن كنت تحكي لصديق مقرب، أو اللا مبالاة، وهذا إن
حكيت لشخص تظنه صديق مقرب!
صحيح أن لا أحد يدرك ألم غيره إدراكًا
كاملاً وتامًا، إلا أن للبعض خيال شعوري يجعله قادرًا على تصور ما تمر به إلى حد
لا يبعد كثيرًا عن الحقيقة. منذ شهورِ كثيرة، كنت مع صديقتي المقربة، نتحدث عن
أحوالها، التي لم أعلم تفاصيلها منذ مدة، وبدأت بحكي شيء لم تحكه لي من قبل
هاتفيًا، أو كتابةَ كما جرت العادة مع وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، حكت
وحينما انتهت لم استطع أن أجمح رغبتي بالبكاء، فجأة ودون سابق إنذار انهمرت دموعي
وبكيت لأن ما حكته كان صعب التحمل، ويفوق تصوري عن أنانية البشر، خاصةً الآباء،
بكيت مثيرة دهشتها وضحكها، واعتذرت لأنها لم تقصد أن تسبب لي هذا الاكتئاب، لكن ما
مرَّت به كان مُبكيًا من وجهة نظري، كنا حينها في إحدى المقاهي الشهيرة، ولم أستطع
تملك زمام مشاعري، مما تسبب في تشويه "برستيجي" تمامًا..
لابد أن حوارًا مشابهًا دار بين جارسونات المقهى:
جارسون 1 : قابل يا عم، أهي جاية تعيط لنا ع الصبح! هو أحنا ناقصين، تروح تعيط في
بيتهم!
جارسون 2 : تلاقي اللي معاها بتقلها إنها شافت صاحبها بيدور على حل شعره مع واحدة
تانية!
جارسون 3 : أو أبوها مرضيش يخليها تروح حفلة "حماقي"!
أذكر إن إحدى صديقاتي أنزعجت مرة لأني لم أرد
إخبارها بما يدور بخلدي أو يعطب مزاجي مؤخرًا، فقلت لها أنه لا داعي لذلك ما دمت
لا تستطيعين مساعدتي على حل المشكلة، فردت أني أصرّ على تذكيرها بقلة حيلتها
اتجاها، وليس هذا ما كنت أقصده أبدًا، فأحد أهم الأسباب التي تجعلني لا أحب التحدث
عمّا يزعجني هو أن هذا لا يريحني، إن أتيت وكتبت هنا قد أرتاح أكثر، باختصار يمكن
للتعبير العامي "بيقلب المواجع" أن يلخص الموضوع، ما لم يكن الذي سأحكي
له يملك حلاً لمشكلتي لا أجد داعيًا لأن أحكيها له أصلاً! حتى لو كانت أمي، التي
تشكو دائمًا من أن أبنائها صامتون كالبوم، ولا يخبرها أحدهم بما يزعجه أبدًا، رغم
رؤيتها أنه من أبسط حقوقها كأم أن تعرف دواخل أبنائها!
أحيانًا تريحني بعض العبارات المقتضبة، لأني أعرف أن مَن أمامي سيرد بعبارات
مقتضبة أخرى يحاول أن يطمئني بها، وحينها أكون ممتنة جدًا له، فأنا لا أحتاج أكثر
من ذلك! أحيان أخرى قد أبكي فجأة ودون سابق إنذار، وحدث هذا من قبل في مقهى شهير
آخر، وجلست صديقتاي تضربان أخماسًا في أسداس ليعرفوا لِمَ بكيت، وربما أنا نفسي لم
أكن أدرك تمامَا ما الذي جعلني أبكي في هذه اللحظة، وحينما فقدتا الأمل في أن
أتحدث، أكتفيتا بالتربيت والمواساة.. وهذا أيضًا يكفيني وزيادة. ولأعترف هنا أن من
آثار تبني فلسفة "التحمل وحدي" أني حتى حينما أريد التحدث عمّا يؤلمني
لا أستطيع، خاصةً في الحديث المباشر، فالكتابة تسهل عليَّ الأمر كثيرًا، أحيانًا
أكون مع مَن أعتبرهم الأقرب لي في هذه الدنيا ولا أستطيع قول ما أريد، أغص
بالكلمات، وقد تدمع عينيّ لذلك وأداريه بابتسامة عريضة، لكن ينتهى اللقاء دون أن
أقول شيئًا واحدًا مما يعتمل في قلبي. ربما هذا الأثر السلبي الوحيد من هذه
الفلسفة، أما البقية فأعتبرها إجابيات.
أما عن دربي الصعب، فقدمي رغم إصابتها لا زالت
مشايّ! وصحيح أني أقف متسائلة أحيانأ، وحائرة كثيرًا، وتائهة معظم الوقت، لكني لا
زلت أرى أن إيجاد الطريق مهمتي أنا وحدي، وحتى إن ساعدني أحدهم ودلني على الطريق
الصحيح، فمَن أدراني أن صحيحه هو صحيحي أنا أيضًا! ولأن الدرب صعب أحتاج أحيانًا
أن أجلس وحدي، حتى استجمع الطاقة الكافية لأكوّن ظلي الذي سأستظل به ! وحينما
تتحمل القوافل بالحزن فأفضل أن أكون الحادي أيضًا، ولا داعي لأن يتحمل شخص آخر كل
السوداوية التي تطفح من داخلي أحيانًا، فأنا أكون مبتهجة ومرحة أحيانًا، وفجأة
ابدأ في طور الاكتئاب الأسود الذي يخرج آثاره المتفحمة على كل ما حوله، وهذا ما
يجعلني أشعر أحيانًا بأني مصابة بمتلازمة الهوس الاكتئابي، لكن وضعي لم يصل للحد
المرضى الواضح بعد XD !
هذه التدوينة كُتبت على ثلاث جلسات متباعدة
في نفس اليوم، هذا شيء نادرًا ما يحدث، أو لنقل لم يحدث من قبل، حتى حينما أريد
التحدث عن أني لا أحب التحدث يكون الأمر صعبًا، وتتخلله المقاطعات XD !
يبدو ما كتبته الآن غريبًا، ومفتقد للتماسك، لكن لا بأس، ليست رواية لأحرص على
تماسكها وحبكتها، كتبت ما بخاطري فحسب، ولا داعي أن يكون اتساقه مثاليًا !
بمناسبة كاظم ! .. هناك أغنية له اسمها "حوار مع النفس"، تناسب جو
التساؤلات الذي كنت أتحدث عنه، وعن أشباه الأصدقاء أيضًا، وعن دفائن القلب، سأختتم
بها ثرثرتي اليوم!
<< لسبب ما أشعر أني كمقدمة برامج
الراديو مع الفقرة الأخيرة هذه، ولا ينقصني سوى أن اقرأ الرسائل التي وصلت
للبرنامج لأهدي الأغاني إلى لولو وطنط سوسن، وحبيبي التائه في غياهب بلوتو XD !أك
منذ بضعة أيام، وأثناء ثرثرتنا عن شيء ما،
أقترحت صديقتي أن نتعانق –سيبريًا أعني- فما كان مني إلا أن رددت بالصورة الموضحة
أعلاه. لتثير الصورة سخرية صديقتان وضحكهما، فأخبرتهما أن الصبار هي الصورة التي
وجدتها أكثر تعبيرًا عن العلاقات البشرية. ولأني أثق في عبقرية صديقتيَّ التي كنت
أثرثر معهما ثرثرة عابرة، فواثقة أن ما قصدته لم يكن بحاجة للتوضيح، حتى تفهمان ما
كنت أقصد. لكن ظلت الصورة تحتل جزءًا من عقلي الباطن، تريدها أن أتحدث أكثر عمّا
قصدت حينها، ربما أنا نفسي أريد من خلال الكتابة بالتداعي أن أفهم أكثر لماذا
اخترت هذه الصورة لا شعوريًا، ودون تردد تقريبًا. ربما يظن البعض هذ سخافةً شديدة،
وأني أضيع وقتي لأتحدث عن صورة غريبة كهذه ؟؟
لا أنفي التهمة! لكني لا أريد التحدث عن الصورة بحد ذاتها، بل عن العلاقات البشرية
التي ذكرتني بالصبار!
أذكر أني منذ بضعة سنوات، ربما أربع سنوات، كتبت
قصة وأسميتها "لعنة بشرية"، في نهاية تلك القصة قامت البطلة بتحطيم
دميتها التي كانت تحدثها وتفرغ لها لواعج قلبها، حتى الدمية التي لم تفعل لها
شيئًا هو الاستماع لها، تحطمت في نوبة غضب. فالبشر بطبعهم كائنات مؤذية، حتى إن لم
يقصدوا ذلك! ومن هنا أتى عنوان القصة، فالإذاء هذا هو اللعنة التي تلاحق الجميع
سواء كانوا على دراية بذلك أم لم يكونوا! سواء كانوا يأذون من حولهم، أو يأذون
أنفسهم، فالمحصلة تهمة مثبتة لا يمكن التبرء منها، البشر – أنا وأنت – نحن كائنات
مؤذية .. شئنا أم أبينا!
لذا حينما رأيت الصورة شعرت أنها قريبة منا
إلى حد كبير، شعرت بأن أشواك الصبار تمثل قدرة الإنسان على الإيذاء، ليس بالضرورة
لأن ذاك الشخص ذو الأشواك شرير! لو عدنا للصبار مجددًا، فسنعلم أنه قاسِ ولا يملك
أوراقًا أو يملك أورقًا ضامرة حتى لا تتبخر المياه! لأنه ينشأ في ظروف وبيئة
صحراوية صعبة، فبالكاد يجد المياه التي تبقيه حيًا! وبدلاً من تلك الأوراق يملك
الصبار أشواكًا، حتى يقلل من تعرضه للشمس، وحتى لا تقتات عليه حيوانات الصحراء!
إذًا.. الصبار ليس نباتًا شريرًا! هو يحاول أن يحافظ على وجوده فقط.. يحاول أن
يبقى حتى لو جعله هذا مليئًا بالأشواك، حتى لو لم يكن له أزهارًا جميلة وأوراقًا
وارفة! ليس خطأه أنه وُجِد في الصحراء.. إنّه يحاول التأقلم ليبقى فقط!
يبدو أني تماديت في التحدث عن الصبار والتعاطف معه.. لكنك غالبًا استنتجت ما أريد
قوله. لا أحد يدري ما البيئة التي خُلق فيها الإنسان الذي أمامنا، لا أحد يدري ما
الذي تعرض له وجعله يحمي نفسه بكل تلك الأشواك بعدها، لا أحد يمكنه معرفة ندرة
المياه التي تعرض لها وجعلته قاسيًا جامدًا إلى هذا الحد، ربما لو علمنا مدى
ندرتها لقدرنا عدم قدرته على تبديدها بسهولة، وقد نتفهم أنّه لا يستطيع فعل ذلك مع
أي شخص.. وإلا فبقائه نفسه سيصبح مهددًا !
إذًا ما شأن الصبار بالعناق؟ ما شأنه بثرثرة
الصديقات التي أقحمت عليها صورة عجيبة كهذه؟
ما سأكتبه الآن هو أول ما خطر ببالي حينما اخترتها، نحن مليئات بالأشواك!
رغم هذا لم نخشَ لحظة العناق هذه، خاطرنا بتحمل الوجع الذي قد يخلفه لنا الاحتكاك
بتلك الأشواك، وبعد ذلك ما الذي سأستفيده؟ ما المميز في أشواك الآخريين ألا تكفيني
أشواكِ أنا ! الإجابة بسيطة، أتعرف ثمرة الصبار؟ ..التي تُسمى أحيانًا "التين
الشوكي"؟ هل رأيتها من قبل، وجربت نزع قشرتها وأكلها من قبل؟ أولاً عليك
بنقعها في بعض الماء حتى تسقط الأشواك، ثم يمكنك إحداث قطع واحد فيها لتنزع القشر
القاسية كلها، وحينها يمكنك الاستمتاع بأكل الثمرة، التي تتميز بحلاوة خاصة بها،
ولا أجد ما يُشابهها في أي فاكهة أخرى! لنعد للتشبيهات مرة أخرى، بعد تحملي
للأشواك البشرية تلك، أنا انتظر حتى يمكنني لمس الجزء اللين الذي يميز حلاوة مَن
أمامي، وكل إنسان له حلاوة تميزه هو وحده، أحتاج للصبر الذي تصبره ربة المنزل
أثناء نقع ثمار التين الشوكي في الماء، والحذر أثناء انتزاع القشرة القاسية!
آه.. اثناء تناولك للتين الشوكي ستجد بعض البذور التي لا يمكن مضغها بسهولة، ابتلعها
يا عزيزي .. ابتلعها، لأنك لن تجد الثمرة كلها حلوة وسائغة كما تريدها أنت، حتى
الكرز بكل جاذبيته وجماله ستجد بداخله بذورًا!
منذ بضعة أيام، كنت عند طبيب العظام، لأن
قدمي لا تجد ثلاثة شهور فترة كافية لتتعافى من إصابتها، ولا زالت تأن معترضة، اعتليتُ
سرير الفحص، وبدأ هو بتحريك قدمي وإبهامي مختبرًا استجابتي للألم:
- في ألم هنا؟
- لما أمشي ..بيكون في ألم هنا!
- هنا..في ألم ؟
- آه.. في أمل!
(ليتصاعد صوتي الداخلي: أمل إيه بس، ركزي شوية!!)
كتمت ضحكي بصعوبة وكررت مصححة: في ألــم ! ضاغطة حروف الكلمة الأخيرة حتى لا تعود أمل
بظهورها المفاجئ.
- ألم شديد؟
- لا .. محتمل!
- محتمل؟!
لا أذكر مرة سألني فيها عن شدة الألم، ولم
أقل له أن الألمَ مُحتمل وليس شديدًا، حتى في بداية الإصابة، لم تختلف الإجابة.
والواقع أن هذا السؤال يجعلني أفكر كيف ستختلف الإجابة من شخص لآخر!
فلو افترضنا أن للألم مقياسًا من 1 إلى 10 ، وسألك الطبيب عن مدى ألمك فعلى أي
أساسٍ ستُجيب؟
ستجيب على أساس أقصى ألم مررت به، والذي مقارنةً به أصبح ألمك الآن يقدر برقم 4 أو
5، ربما كان ألمي الذي وصل لأقصاه (10)،
يكون لدى شخص آخر ألم لا يصل إلى حد الإزعاج.. (3) مثلاً! وبالمثل قد يُقدِّر شخص
آخر ألمه بأنه شديد (8)، وأنا أعتبره لا زال في مرحلة "ألم محتمل".
أظن هذا يحدث بشكل لا واعي إلى حد كبير، لكني أدرك أني أقارن برقم (10) مررت به منذ
ما يقارب الثلاث سنوات، حينما خضعت لعملية جراحية، لا يعرف تفاصيلها الكثيرون، لم تكن
العملية خطيرة، ولا تهدد الحياة، لكنها كانت مؤلمة بالتأكيد، أذكر أن أحد أقاربي
سأل والدتي مازحًا مَن سببت وأنا أفيق من التخدير، فلم أفهم المزحة جيدًا، أخبروني
أنه في مرحلة الاستفاقة من البنج كثيرًا ما يستفيق المرضى وهم يسبون ويلعنون، يعتبر
الناس أن لواعج قلب المرء تخرج حينها، ويظهر على حقيقته أخيرًا، قلت بيني وبين نفسي
ربما لشدة الألم يحدث ذلك، فالتجارب تقول أن تلفظك بالسُباب قد يقلل من حدة ألمك!
أو لأن الظهور بمظهر الشرير الذي يطلق السباب، أفضل لدى البعض من مظهر البائس الذي
يتلوى ألمًا، فيصرخ طالبًا ما يريد بوقاحة مداريًا ضعفه. بالطبع، هذا لا ينفي وجود
أوغاد يظهرون على حقيقتهم أحيانًا :D !
آه.. تظنون أني لم أجب السؤال عمدًا! حسنًا..حينها
أجابت أمي: تقبر قلبي، ما سبت حدا!
ولتكن إجابتي أكثر تحديدًا،أذكر حينها أن أول كلمات نطقتها هي أني أريد مسكن! وأظنني
بعدها بقليل طلبت بطانية أخرى لأني كنت أرتجف ألمًا وبردًا.
لنعد إلى قبل أن يكشف الطبيب على قدمي،
أخبرته والدتي مكملة كلامي أن بعد تحسن دام أسبوع أو اثنين عاد الألم، وأنها لا
تتحمل أي مجهود، وأنها تبكي لو ارتطمت قدمها بأي، حدثتني نفسي أن والدتك أهدرت
كرامتك بالكامل وانتهى الأمر، وعدلت أنا على ما تقوله بأني لم أكن أبكي لشدة
الألم، بل لأن الوقت طال ولا زلت لم أتعافى!
كانت أمي تشير إلى ما حدث قبلها بعدة ساعة، حينما كان أخي يقوم بتصليح شيئا ما، تاركًا
مفك البراغي أرضًا، وارتطمت أنا به أثناء سيري، ليصيب مكان الألم تحديدًا، اعتذر
لي أخي بهدوء، وقال أنه ليس ثقيلاً، وبالتأكيد لم يؤلمني كثيرًا!
لكني بكيت حينها، مغادرةً الغرفة، طبعًا التفسير المنطقي هو أني بكيت من شدة الوجع!
وهو الشيء الذي لا شأن له بالأمر! بشكل عام لا أحب أن ترتبط لحظة بكائي بما يدور
من أحداث حولها، لأنها غالبًا لا تكون ذات علاقة وثيقة بها، ربما يكون مجرد دبوس
يفجر بالونة دموعي، لا أكثر، كما حدث ذلك اليوم.
بعد إصابة قدمي، لم أعد قادرة على ممارسة رياضتي المفضلة، المشي، أنا التي كان
يمكنها الاستمرار بالمشي ثلاث ساعات، وأبقى مستمتعة بالأمر، أتألم الآن بعد عشر
دقائق، ولم أعد قادرة على ممارسة أي رياضة بها بعض المجهود. الوقوف لمدة طويلة لأطهو
الأشياء التي تتطلب دقة وتركيزًا كبيرًا، مما يريح ذهني من التفكير، لم يعد متاحًا
لأنه يرهقني، لم أعد قادرة على الصلاة أو بالأحرى السجود دون استخدام كرسي لأن قدمي ﻻ تحتمل وزني في تلك الوضعية، يوميًا تقريبًا ترتطم قدمي المصابة بشيء ما، أو يقع فوقها مقص، أو
ترتطم بمفك براغي، أو يدوس عليها شخص ما. وكأنها مستهدفة مِن قبل كائنات جانب
النجوم الخفيّة، الذين يتسلون عليّ بسادية.
حينها لم أبكي لشدة الألم، بكيت لأني مللت مما يحدث وكاد ينفذ صبري. بكيت لأني
أعرف أن مُعاناتي لا تقاس بمعاناة غيري، لكني لا زلت لا أحتملها، وضقت بها. لم أبك طويلاً كما قد يبدو من كثرة الحديث عن الموقف، ربما لم يتجاوز بكائي دقيقة واحدة، وفرغت
بالونة دموعي التي انفجرت فجأة.
لكن ما حدث جعلني أفكر بأن الألم لا ينبغي أن يكون شديدًا ليُشعرك بالضيق، قد يكون
ألم محتمل، لكنه يُعيقك عن الكثير، يُشعرك بالخوف من أن يتحول رقم 4 إلى 5، ورقم 5
إلى 6، حتى تصل لنهاية المقياس. الألم يُشعرك بأنّك كائن مُهدد وهش طوال الوقت،
يُذكرك بلا رحمة بضعفك وقلة حيلتك!
وبالتأكيد لا أتحدث ها هنا عن إصابة قدمي وحسب، لكني أتحدث عن أي ألم، حتى النفسي منه، مثل
شعورك بوخز داخلي دائم لمواجهتك شيء تكرهه، أو لاحتمالك واقع فُرِض عليك تحمله،
لخطأ ارتكتبه وتشعر بتأنيب ضمير بسببه، لخوف من مستقبلِ يبدو غامضًا وقاتمًا. كل
هذا قد يكون على مقياس ألم من 1 إلى 10 لا يتجاوز رقم 4 أو 5 !
لكنه يُفسد عليك حياتك، قد يراك البعض شخصًا بكّاءً ويرون ألمك على المقياس يساوي صفر!
لكن لا أحد يشعر بألم أحد، لكلِ منا مقياسه، لكل منا حساسية ألم تجاه أشياء تختلف
من شخص لآخر.
ربما هذا أهم درس تعلمته في الفترة الأخيرة، ألا أتهاون مع تلك الآلام الداخلية
الصغيرة، وأحاول أن أوجه لها بعض العناية، قبل أن يزداد وضعها سوءًا. لا داعي لأن
أنتظر حتى تصل لأقصى المقياس وتصرخ كمغنية سوبرانو، حتى أعير لها بعض الاهتمام!
منذ ثلاث سنوات تقريبًا، حينما حان وقت عودتي
للمنزل، ربما كان مقياس الألم يقدر بـ 8 ، أتى أبي ليعدني أنا وأمي في تلك الليلة،
وأثناء عودتنا، كان يقود السيارة وكأنه يلعب Crazy Taxi ! ولك أن تتخيل حالي وأنا أجلس في
المقعد الخلفي للسيارة، التي يقودها أبي بلا اكتراث كعادته، ويزيد الوضع سوءًا
شوارع مصر، التي تعتبر الحفر والمطبات من علاماتها التجارية! كلما تأوهت مخبرة أبي
أن يقود بتمهل، كان يخبرني ألا أخاف، وأن شيئًا لن يحدث لي، حتى لو شعرت ببعض
بالألم الآن. والواقع أنه كان يضحك كلما رجوته بالتمهل، يبدو أنه كان يحظي بيوم
ممتع، مما جعلني أضحك على قيادته وتعليقاته أحيانًا. كان مقياس الألم 8، تأوهت
كثيرًا.. لكني كنت قادرة على الضحك!
حتى لو سارت بنا الحياة كما تسير السيارة في لعبة Crazy Taxi، وحتى لو كان الطريق فيها أكثر شناعةً من شوارع مصر، وحتى لو كان مقياس الألم عاليًا، ربما يحدث ما يمكنك من الضحك..
ربما كانت الإجاباتان صحيحتان حينما أجبت الطبيب: في أمل...وفي ألـم !
عودة لتلك الاعترافات المعلّقة مرة أخرى –وربما
أخيرة- فهذين الاعترافين فجرا بداخلي الكثير بشأن علاقاتي البشرية، لأرى مجددًا
ما فيها من مزايا وتناقضات. وكما كُتب في إحدى الاعترافين "أكره أن أكون
وحيدًا، لكني بشكل ما دومًا وحيد!" حينما قرأتها للمرة الأولى فلت لنفسي كاتب
هذه العبارة لا يفقه شيئًا عن الوحدة ومنافعها، فشخص مثلي يختار الوحدة لشهور
طويلة يدرك كيف يمكن أن تؤثر إيجابًا على الاستقرار النفسي، وفاعلية التفكير،
وإيجاد الصوت الداخلي، لكني تذكرت أن تلك الوحدة الاختيارية إن طالت تصبح عواقبها
وخيمة أحيانًا، فبعد حالة الاستقرار النفسي تلك، التي جعلتك تفكر وتجد صوتك
الداخلي، لا يصبح أمامك سواه.. أجل أتحدث عن الصوت الداخلي، فإيجاده لن يحل
المشكلة كما تتخيل، بل قد يبدأ بسلسلة طويلة من المشاكل! فالصوت الداخلي ليس ملاكك
الحارس الذي سيقودك بحكمة عبر المصاعب التي تمر بها، صوتك الداخلي قد يكون شيطانيًا،
قد يكون غبيًا! وأحيانًا يكون كل هذا معًا، يمكنك اعتبارها حالة معقدة من الـ D.I.D الداخلية لكنها لم تصل إلى حد ظهور أعراض على
عائلها الأساسي. ولأني أدرك أن الوحدة ليست دائمًا هي الإجابة الأفضل فأعود لأمد
مجساتي لأتحسس من لا زال حولي من أصدقاء، هل غادروا كلهم؟ هل هناك من يتقبل ذهابي
وعودتي دون اعتبار هذا طمعًا مني؟
ولحسن الحظ أجد البعض، والآن يمكنني معرفة ثلاثة أو أربعة أشخاص، أعتقد أن لديهم
الصبر لتحمل تلك الحلقة المفرغة التي أعيشها، الرغبة في التقوقع، ثم كسرالقعوقعة
والعودة لهم مجددًا.
بعد الوحدة الطويلة وكسر القوقعة، أجد نفسي راغبة بالمزيد من التواصل البشري،
الأمر شبيه بمن كان يتبع حمية غذائية على الرغم منه، وبمجرد أن ينتهي جدول الحمية
يترك لنفسه العنان، ما سيحدث حينها هو التخمة بالتأكيد!
ولأني شخص لا يحب أن يُصاب بالتخمة، على اختلاف أنواعها، وضعت لنفسي بعض القواعد،
لأخرج من قوقعتي وأدخلها بأقل قدر من الخسائر.
القواعد هي:
- لا يمكنك عقد صداقات مقربة مع أشخاص كُثر، كلما كان الأشخاص المقربين أقل، كلما
كانت العلاقة أقرب للمصداقية والاستمرارية، وإن كانوا قلة يمكنك التواصل معهم حتى
وأنتِ في مرحلة التقوقع!
- لا تقتربي من أي شخص أكثر مما ينبغي، إن كبَّرت الصورة كثيرًا سترين كل عيوبها،
لا داعي لأن تفعلي هذا، وتفسدي جمال ما ترينه.
- لا تدعي أي شخص يقترب أكثر مما ينبغي، حتى لا تفسدي جمال ما يرونه.
- لا صداقات أبدية، الصداقة ستنتهي يومًا، وغالبًا سيحدث هذا بطريقة الموت البطيء،
الأمر مؤلم، لكن هكذا هي الحياة، ستعتادين الأمر مع الوقت.
لذا لا يصعب الاستنتاج أن أصدقائي المقربون
عزيزون جدًا على قلبي، وأعتبرهم للكنز أقرب، ولا يصعب استنتاج أيضًا أني مهما حاولت
منع نفسي من ذلك..أنا أتعلق بهم بشدة، وحتى لو كنت أعلم أن وجودهم في حياتي ليس أبديًا،
وحتى لو كان تفهمي شديد لحريتهم في الذهاب والعودة كما يشائون، فأحيانًا تخرج مني
بعض التصرفات التي تخالف هذين الاعتقادين، أتصرف أو أقول شيئًا أنانيًا قد يتسبب
بشرخ العلاقة، شرخًا يجلب شروخًا أخرى فيتهاوى ما بنته السنين، وهذا يجعلني أكثر
ترددًا في التصرف والتواصل فيما بعد.
حان الوقت للحديث عن الاعتراف الثاني،
"لا أدري لماذا عليّ إبهار الآخرين دائمًا.. هذا غباء!"
ولأن العلاقات تنتهي وتفشل ببطء، ابدأ بتحليل الأمر أحيانًا! لماذا؟ أعلم أن هذا
ما سيحدث يومًا ما، لكن لماذا الآن؟
لماذا بهذا البرود؟ لماذا أنا وليس شخصًا آخر!
وكطفلة في السادسة من عمرها، بكل قصورها في التفكير، وقلة تقديرها لما يمر به
الآخرين، يبدأ اعتقاد يترسخ بأني السبب في الأمر ! ربما لأني لم أكن صادقة كفاية،
لم أكن منتبهة كفاية! وغالبًا السبب الذي يحتل رأس قائمة الأسباب أني لست مبهرة
كفاية! ربما لو كنت أكثر إبهارًا، أكثر
إنجازًا، أكثر ذكاءً، لما حدث هذا! ربما حينها يكون لمعرفتي قيمة أكبر، ويكون لي
وزنًا أثقل..لا يجعلني أول من يُطيح به عنف المرور بمنعطفِ جديد!
أتعرف "أم سعف"؟ لن ألومك إن كنت
لا تعرفها، فحتى أنا التي أريد أكتب عنها الآن، معرفتي بها سطحية جدًا! "أم سعف" هي بطلة مسلسل كارتوني كويتي، لم أشاهد سوى حلقة واحده منه،
هذا إن كنت شاهدتها كاملة أصلاً، فلا أتذكر حقًا هل سمعت تلك العبارة أثناء مشاهدة
عابرة، أم سمعتها من إعلان عن المسلسل.
لكن من قال أنّه يجب أن تعرف شخصًا ما جيدًا
حتى يلهمك؟!
فرغم معرفتي السطحية بأم سعف، كان لها تأثيرًا إيجابيً في تكوين إحدى فلسفاتي في
الحياة.. ولنكون معًا على نفس الصفحة، كان ما سمعته هو عبارة من الحوار التالي:
- يا أما أبا أقولك شي، بس أخاف تخانقيني !
- هاااا.. شو مسوي؟ شو مغبر؟
- يا أما.. أنا ...أنا ..
- قول ...قول ؟
- أنتي حبيتي أبوي قبل ما تتزوجينه؟؟
- شنو؟ شاكو هالسؤال الحين بموضوعك؟
- يا أما أنا أعيش حالة حب، أنتي أكيد عشتيها مع أبوي قبل الزواج، صح؟
- أنت من صدجك؟... أنتَ شفت أبوك؟ أبوك ما ينحب.. أبوك يتعودون عليه بس!!
ما سمعته كان آخر سطرين فقط! والجزء الثاني
من السطر الأخير هو ما كان له الأثر في بداية تكوين فلسفتي الجديدة! العنصر الثاني الذي أكمل هذه الفلسفة هو "السبانخ"!! وعلى عكس "أم
سعف"..أنت غالبًا تعرفها، لكن ربما علاقتكما سيئة، صحيح؟
كانت علاقتي بها سيئة منذ الصغر أيضًا، فكنت أتسائل: تلك الكتل الهلامية الخضراء،
ذات الطعم الحاد، مَن الذي ظن أنّها تصلح كطعام للآدميين أصلاً؟ أيجب أن يجربوا كل
شيء أخضر كالجراد؟ بعض الأشياء لا تُأكل فعلاً!!
لكن مع تقدمي في العمر، أصبحت أكثر تساهلاً مع رغبة البشريين في أكل شيء، ما يهمني
الآن هو قيمته الغذائية!!
ولا يخفي عليك فوائد السبانخ، فكون علاقتك بها سيئة لا يتعارض مع إقرارك بكل محاسنها
الأخرى. لذا وفي أحد الأيام الشتوية الغائمة التي قامت فيها والدتي بطهي السبانخ
الخضراء العتيدة، قررت حينها بأني سآكل السبانخ مهما كان طعمه، أنا كبيرة بما يكفي
لأن آكل لأجل الفائدة وليس لأجل الطعم. حينها حدقت في صحني، وحدثت نفسي: أنتِ
شايفة السبانخ يا آية؟ السبانخ ما تنحب...السبانخ يتعودون عليها بس!!
ولأنها أصبحت فلسفة من فلسفاتي العديدة كما اسلفت، يمكنك أن تستنتج أني تعودت على
السبانخ، وأحببتها..ذلك الحب الهادئ التدريجي الذي يأتي بعد عشرة السنوات. الآن
أطلب من والدتي طهي السبانخ كثيرًا، وأطالبها بتخزين البعض في الثلاجة حتى آكلها
بعد انتهاء موسم السبانخ!
منذ ذلك الحين، وأنا استعمل عبارة "ما
تنحب..يتعودون عليها بس"! مع أشياء كثيرة، أرى فائدتها على حياتي أو صحتي أو
تطوري المهني. تعوّدت عليها، وربما أحبها بعد بضعة أشهر أو سنوات. لن يكون كل شيء
يساعدني على بلوغ أريد محببًا لنفسي، ومزينًا بالشكولاته وحبات اللولوء السكرية،
بعض الأشياء ستبدو كئيبة ومتكتلة كالسبانخ، ونفس المرء تعاف الكثير مما ترى في
هضمه النفسي أو العقلي صعوبة، لكن حبي للسبانخ جعلني أؤمن بقدرتي على حب أشياء
أخرى عديدة من بعدها.
عُلّقت هذه اللوحة الخشبية في معرض
للاعترافات في مدينة "نيويورك"، وبهذا يدمجون طقوس الاعتراف المسيحية، مع
طقس بوذي يقوم فيه الشخص بكتابة أمنيته / صلاته على لوح خشبي ويعلقه في المعبد. منذ
بضعة أسابيع قامت صديقة بإعطائي رابط للموقع الذي صوّر كل هذه الاعترافات وعرضها
في موقع إليكتروني. حينما بدأت بالقراءة بعضها لمس وترًا داخليًا عندي، أو ذكرني
بشيء ما، وهذه اللوحة ذكرتني بهذه الأغنية.. وخاصةً المقطع الأول منها..
Let me go
I don't wanna be your hero
I don't wanna be a big man
Just wanna fight with everyone else
Your masquerade
I don't wanna be a part of your parade
Everyone deserves a chance to
Walk with everyone else
دعني أذهب
لا أريد أن أكون بطلك لا أريد أن أكون رجلاً كبيرًا
أريد فقط أن أقاتل مع الجميع
في حفلتك التنكرية
لا أريد أن أكون جزءًا من استعراضاتك العسكرية
كل شخص يستحق فرصة
ليسير مع أي شخص آخر
الاغنية لفيلم "Boyhood" الذي لم أشاهده بعد، لكني
مقتنعة أن الأغاني مثل بقية الفنون، بإمكانك تفسيرها كما تراها أنتَ بعينيك، وتشعر
بها بداخلك، بغض النظر عن غرض أو فكرة صانعيها. ذكرتني الأغنية بوضع الجنود
الأمريكيين الذين يذهبون إلى الحرب، وترسلهم "أمريكا" إلى حرب ضروس تحت
ادعاء أنهم ينقذون وطنهم، ويدافعون عن الحرية!!
فيذهب أولئك الجنود إلى هناك، ومَن يعود منهم سالمًا جسديًا، تخفي نفسيته عشرات
الكدمات والسجحات. وغالبًا صاحب هذا الاعتراف هو أحدهم.
منذ عدة سنوات، أذكر مشاهدتي لإحدى حلقات الموسم الأخير من برنامج
"أوبرا"، حيث استضافت جنودًا عادوا من الحرب، أحدهم مصاب بعاهة مستديمة،
ويعاني أيما معاناة لأنه يحاول إيجاد دورًا ما لنفسه في هذه الحياة بعدما عاد بهذه
الحالة. الجندية الأخرى، كانت أم ذهبت للحرب، لا أذكر ذلك بثقة تامة، لكن أظن أن
سبب ذهابها هو رغبتها بتحسين حالة الأسرة المادية بالتعويضات التي تدفع للجنود
المتطوعين. حينما تركت منزلها وذهبت للحرب، ومع مرور الشهور، أخذ زوجها الأولاد
وغادر المنزل، مستوليًا على حق حضانتهم لأنها غائبة. كانت تشكو مما حدث، من ضياع
أسرتها ومنزلها. في تلك الحلقة قال أحد الضيوف لأوبرا، ما معناه، أمريكا كلها
شاركت في أمر حرب فيتنام، فمن شجعها ذهب إلى هناك، ومن لم يفعل عارضها بكل قوته
هنا. لكن في حرب العراق، لم يعاني سوى من ذهب لهناك وعائلاتهم، أما بقية أمريكا
فلا شأن لها فيما يحدث!
لا، لم أُجن بعد لأكتب دفاعًا عن أمريكا وتعاطفًا مع جنودها لأنهم عانوا في
العراق، لكني لا زالت أذكر شعوري بعد مشاهدة تلك الحلقة، ذلك الشعور الذي أعاده
الاعتراف المكتوب على اللوحة الخشبية، شعرت حينها بالحيرة!
حسنًا، لماذا إذًا ترسل أمريكا أبنائها لهناك؟ ألا يرون أنهم يعانون؟!
يعرف عقلي الإجابة المنطقية، أن ذلك لأنها تريد النفط، تريد التحكم، تريد فرض
السيطرة وإثبات القوة، هكذا هم البشر، لا يستطيع من يحصل على القوة أن يجلس
ويحتضنها هانئًا بدفئها.. عليه أن يرسلها لتحرق من حوله مثبتًا قدراته على تشكيل
ما حوله بعد المحرقة!
لكني لا زلت محتارة! أنا حقًا لا يمكنني
استيعاب أن ترسل بلدًا جيشها –ابنائها- ليهاجموا دولة أخرى، لا توجد حرب مباشرة
قائمة بينهم، تفعل ذلك خوفًا من قوة محتملة قد يحترزها ذلك العدو ربما، مع ذلك لا
زلت لا أرى منطقية في فعل "went"
"ذهبَ" نفسه، لماذا يقوم أحدهم بالذهاب للجحيم بقدميه؟
ولأن فعل "went" أرقّني، تذكرت مأساوية فعل ""cameحينما قرأت الاعتراف! تذكرت من أتت لهم الحرب ككابوس
مفاجيء، لتمشي الهويني بين بيوتهم، وتدمرها بيتًا بيتًا وهم يشاهدونها مذعورين بأم
أعينهم، متسائلين مَن؟ ماذا؟ لماذا؟!
فما يدهشني أكثر من أن ترسل دولة ابنائها لتحارب دولة أخرى، هو أن تقوم الحرب بين
أبناء الدولة الواحدة، أن تكون الحرب داخلية، وهذا لعمري اسوأ وأكثر مأساوية من
الحرب مع المحتل. وحينما تأتي الحرب إليك لا يكون أمامك سوى محاولة الدفاع
الغريزي، حتى لو كان هذا الدفاع بدائيًا، ومشتتًا، ومثيرًا للشفقة. فأنتَ لم تذهب
للحرب مستعدًا، بل هي من أتت إليك دون موعد سابق.
عبثية أن تقوم حرب لمجرد أن البعض يقوم ببعض
المظاهرات والهتاف شيء لم أكن أظن أني سأعيش لأراه، فالحروب بعيدة، يتحدثون عنها
في النشرات الإخبارية والأفلام التسجيلية، ولن يكون لها أي أثر عليّ أو على من
أحب، هذا كان منذ بضع سنوات، وأدرك الآن مدى سذاجته. بعد قيام الخريف العربي في
سوريا، لا أدري على من يجب أن أُسقط اللوم، فلا يمكنك لوم أحدهم لأنه يعترض على
تعامل الأسد مع سوريا على أنها عزبة والده، ويعتبر شعبها خرافه المطيعة التي يقودها
كيفما شاء، لكن لا يمكنك أن تقتنع بعبارة لم نكن نتوقع كل هذا وتقبلها بضمير
مرتاح، فما فعله الأسد الأب في حماه عام 1982 لا يخفى على أحد. ربما لم يظنوا أن
الدموية والجنون والسياسة وحقراتها ستحول وطنهم إلى أرضٍ محروقة، ربما ظنوا أنه
عصر العولمة، ولن يستطيعوا إخفاء ما فعلوه كما حدث عام 1982، ولن يصمت المجتمع
الدولي على هذا. ولا يمكننا إنكار أنه لم يفعل، فالمجتمع الدولي يشجب، ويعترض،
ويدين، ويندد، ويعقد اجتماعات، ولا يبدو مقصرًا أبدًا..أبًدا!!
في السنوات الأربعا الماضية بدت فكرة الوطن
خيالية، أي وطن يفعل هذا بأبنائه؟ وتبدو فكرة أن يضحي أحدهم بحياته لأجل ذلك الوطن
الخيالي شيء غير منطقي! لأنك تضحي عارفًا أن تلك التضحية ليست سوى رقمًا. فموتك أو
اعتقالك لن يحسن ذلك الوطن الذي هببت لتدافع عنه، فأنتَ بالنسبة له رقم ضمن
ضحاياه، لا أكثر.. وربما أقل! لكنك لست رقمًا لعائلتك، وأصدقائك، لست رقمًا إن تخليت
عن حلم البطولة، وهربت لتعيش في مكان ما بعيدًا عن هذا الجحيم، وحتى إن عدُّوك
رقمًا، فلن يضرك هذا ما دمت حيًّا تُرزق، ولم تبع روحك لحلم خيالي.. علّه يومًا
يتحقق.