الجمعة، 19 فبراير 2016

الزِّن في فن الكتابة




"تذّكر عازف البيانو الذي قال إنه إذا لم يتدرب يوميًا، فسيعرف هو ذلك، وإذا لم يتدرب ليومين، سيعرف النقاد ذلك، وبعد ثلاثة أيام سيعرف الجمهور ذلك. الأمر نفسه ينطبق على الكتّاب. ولا يعني هذا أن أسلوبك سوف يتبدد خلال أيام. ولكن ما سيحدث هو أن العالم سيصطادك، ويحاول أن يصيبك بالمرض. إذا لم تكتب كل يوم، ستتكدس فيك السموم وتبدأ بالموت، أو التصرف بجنون، أو كلاهما."
هذا ما يقوله لنا العزيز برادبيري في مقدمة كتابه "الزَّن في فن الكتابة." فهو يرى الكتابة نشاطًا يوميًا لا بد منه، يعتبرها متعة ولذة.. وخير دليل على ذلك إنتاجه الغزير ومكانته كأحد أساطين الأدب الحديث في أمريكا. والواقع أنك كقارىء ستشعر بمدى استمتاعه بالكتابة وحبه لها. بالنسبة لي كان الكتاب مثل علب الشكولاته الفاخرة لا يطاوعني قلبي على أكلها كلها في يومٍ واحد، كنت اقرأ مقالاً واحدًا صباح كل يوم، معتبرةً ذلك المقال زادي من الإلهام والاستكشاف لذلك اليوم.
يحدثك برادبيري عن فن الكتابة وخبرته الطويلة به، فلو كنت ممن يطمحون إلى امتهان الكتابة سيكون هذا الكتاب إضافة مفيدة وممتعة لمكتبتك، و إن كنت ممن يعشقون القراءة، ستجد في الكتاب ما يروي فضولك عن كواليس العملية الإبداعية.

"ما الذي يمكننا نحن المؤلفين أن نتعلم من السحالي؟ وما هو الشيء الذي نستطيع التقاطه من الطيور؟ تكمن الحقيقة في السرعة؟ كلما عجلتَ بالتعبير عن مكنونات نفسك تدفقت الكتابة بانسيابية وصدق. مع التردد يأتي التيهُ في غياهب الفكر، وفي التأخير تأتي المجاهدة في اختيار الأسلوب المناسب عوضًا عن القفز مباشرة نحو الحقيقة، وهو الأسلوب الوحيد الذي ينبغي القتال من أجله."
الكتاب مليء بنصائح وتلمحيات كهذه، فبرادبيري يرى أنه عليك التعبير عبر الكتابة عن مخاوفك حتى تلك التي انتابتك أثناء الطفولة، عن أفكارك الغريبة، عن مراقبتك غير الواعية للحياة والناس من حولك. كان يكتب عناوينًا لأفكار محددة، ويعود لها فيما بعد ليخلق منها عوالم القصص أو الروايات. ولبرادبيري طريقة مواظبة مثيرة للدهشة والإعجاب في آن، كان يكتب ألف كلمة يوميًا، وهذا هو أهم شيء، يمكنه بعد ذلك أن يتناول غذائه في ثلاث ساعات ما دام انتهى من كتابة الألف كلمة في الصباح! سيُقال حينها أنه بهذه الطريقة لن يكون كل ما يكتبه غاية في العبقرية وخاصةً في السنوات الأولى؟ هو يعرف ذلك ويعترف به، يعترف أنه في البداية كان متأثرًا بكتابه المفضلين، كان نتاجه القصصي عبارة عن محاكاة لهم، ولم يكتب قصة ترضيه وتمثل أسلوبه وإبداعه الخاص سوى بعد بضع سنوات من الكتابة ونشر القصص. ينصحك بأن تكتب يوميًا وتحاول كتابة قصة أسبوعيًا مثلًا، وأن تستمر حتى لو كان نتاج القصص الفاشلة هو خمسة وأربعين قصة من أصل اثنين وخمسين قصة! ولأن الإبداع عملية متنامية، فالفشل حينها يكمن في الانسحاب ولا شيء سواه.

"كيف ترى العالم؟ إنك بمثابة المنشور الزجاجي الذي يقيس ضياء الكون، وهو يتّقدُ في ذهنك ليطرح ألوانًا مختلفة من القراءات على الورق الأبيض، بطريقة لا يجيدها أحد سواك في أي مكان كان، فلتدع الكون يتّقد من خلالك، وانثر ضياء المنشور ذلك الضياء الأبيض المتقد على الورق، واحرص على أن تكون قراءتك و رؤيتك متفردة، حتى تصبح عنصرًا جديدًا يُكتشف، و يُصنّف، ويُسمّى."
يرى برادبيري أن الكتابة تكون لتمس جوهرك الداخلي، وأن من يكتب لنيل الشهرة أو الثروة يخادع نفسه. إن أردت الشهرة والثروة عليك القيام بالعمل اللازم قبل ذلك، عليك العمل والكتابة حتى تصبح الكتابة بالنسبة لك شيئًا مريحًا و ممتعًا.
"لم أفكّر في طريقتي في الحياة كثيرًا، ليس كتفكيري في الأشياء التي أنجزها وإيجاد ما أصبحت عليه ومن أنا بعد إنجازها. كل قصة كتبتها كانت طريقة للعثور على الذات. وكل يوم أعثر على ذات تختلف قليلًا عن تلك التي وجدتها قبل أربعة وعشرين ساعة."
يرى أن الكتابة ستساعدك على استكشاف نفسك، فقصصه التي كتبها بها الحقائق التي أرّقته، وبها أيضًا الحقائق التي أنقذته. أثناء قرائتك للكتاب ستدرك كم قصة استلهمها من فكرة بسيطة، أو من موقف عابر، أو من إحدى مخاوف الطفولة العديدة. فهو لم يُحقّر أو يُدر ظهره أبدًا للأشياء والأعمال التي أحبها وكبر معها. سيجعلك تدرك أن كل شيء خبرته وعرفته سيصب في النهاية ليكون القالب الذي سيميز إبداعك فيما بعد.

وستعرف أيضًا موهبة يمتكلها بها برادبيري، وهي قدرته على تعديل أعماله، أو إعادة كتابتها، كان يرى ذلك فنًا بحد ذاته، فإحدى القصص حوّلها بعد ذلك إلى رواية. وإحدى الروايات حوّلها إلى نص سينمائي. ورواية أخرى كتب لها نص مسرحي يعرض لنا فيه الأبطال مجددًا بعد غياب سنوات. كانت مفاجئة سارّة حينما علمت أن هناك نصًّا مسرحيًا به أحداث تدور بعد انتهاء رائعته "451 فهرنهايت". هو لم يعِد قراءة روايته قبل أن يكتب ذلك النص المسرحي، بل زار الشخصيات في مخيلته، وألقى السلام ثم رأى كيف أصبحوا وكم تغيروا بعد كل تلك السنوات. في تلك المسرحية يمنحنا برادبيري جوابًا مهمًا جدًا، لم يكن في الرواية، لماذا يرحق زعيم الحريق الكتب؟!
كانت الإجابة مبهرة بالنسبة لي، ومنطقية إلى حد كبير، تفهمتها كعاشقة للقراءة، أتتخيلون أنه بعد كل تلك السنوات استطاع أن يجعلني اتعاطف مع زعيم الحريق ووجهة نظره؟؟ لنلخص الإجابة بذكر جزء من الحوار.

"زعيم الحريق: ...عندما تجاوز العمر بي الثلاثين وقاربت الحادية والثلاثين من عمري، استعدت صحتي بعدما أصبحت كل عظمة من عظامي مكسورة، وكل سنتيمتر من جسدي قد بات إما متآكلاً أو مكدومًا. نظرت في المرآة فوجدت رجلاً مسنًا قد تاه خلف وجهٍ مذعور لشاب في مقتبل العمر، ورأيت هناك الكراهية في كل شيء وأي شيء، سمّها ما شئت، إنني لأود أن ألعنها. فتحت صفحات الكتب، أفضل الكتب في مكتبتي، فوجدت...ماذا، ماذ، ماذ؟!
حمن مونتاغ: "كانت الصفحات فارغة؟".
- قد أصبت الهدف، فارغة! أوه، كانت الكلمات موجودة في مكانها بخير، ولكنها انطلقت صوب عينيّ كالزيت الحار، دون تعليق ولا تبرير، ولم تقًم حتى بأي شيء، لا مساعدة، لا مواساة، لا سلام، لا مرفأ، لا حب حقيقي، لا فراش، لا ضوء."

يذهب للمرء للكتب مُعتقدًا أنه سيجد فيها كل الحلول، سيجد الأصدقاء الخياليين وسينعم بدفئهم. سيجد شرورًا لكنه ينتظر معرفة مبررات فاعلها. ينتظر أن يجد فيها المهرب المثالي من الواقع البائس ولا مشكلة إن بكي على البؤس الموجود فيها فهو خيالي ! بعد كل هذا لا استغرب أن تُحرق الكتب حينما تشعر أنها خزلتك! كانت إضافته في تلك المسرحية لمسة عبقرية وإضافة أحببتها لإحدى رواياتي المفضلة في الخيال العلمي.

ولا يمكن ألا يكتب برادبيري عن الخيال العلمي، فهو أحد أساطينه، ورواده الأوائل. تحدث برادبيري عن الخيال العلمي وفي كتابه ستجد ردودًا على كل مَن يستهِن بالفانتازيا والخيال العلمي. وفي زمن بدايات كتابة برادبيري، كان ذلك الاستخفاف أكثر انتشارًا وقوة من أيامنا هذه.
"لا يمكنك أن تحصل على واحدٍ دون الآخر. لا فانتازيا، لا واقعية. لا دراسات تتعلق بالخسارة، لا ربح. لا خيال، لا إرادة. لا أحلام مستحيلة، لا حلول ممكنة. شعر الأطفال، وإن لم يتمكنوا من قول هذا، أن الفنتازيا وطفلها الآلي، الخيال العلمي ليست مهربًا على الإطلاق. إنما تدور حول الحقيقة لتستميلها وتجعلها تتصرف.
...يبدو أننا جميعًا أطفال خيال علمي نحلم بطرق نجاة جديدة لأنفسنا. إننا مُدّخرات كل الزمن. بدلاً من وضع عظام قدّيس في نواقيس الذهب والكريستال، ليلمسها المؤمنون في القرون التالية، نحن نضع الأصوات والوجوه، الأحلام والأحلام المستحيلة على الأشرطة، على التسجيلات، في الكتب، على التلفزيون، في الأفلام. الإنسان حلّال المشاكل فقط لأنه حافظ الأفكار. بمجرد العثور على طرق تقنية لحفظ الوقت، تخزينه، التعلّم منه، تنمية الحلول. نجونا عبر هذا العصر إلى عصور أفضل."

ومدام تحدث عن الخيال العلمي والفانتازيا.. عن العمل والإبداع حتى تصل للراحة والاستمتاع اثناء خلقك لهذا الإبداع، عن مغامرات طفولته التي ألهمته، عن إقامتك في إيرلندا وكتابته نصًا سينمائيًا لفيلم موبي ديك، لا يمكن أن يغفل في كتابه التحدث عن أم الكتابة..إلهام العزيزة، أو كما كانوا يسمونها قديمًا شيطان الشعر. في الكتاب فصل جميل ممتع اسمه "كيف تطعم ربة الإلهام وتستبقيها." ربما تكون هذه المقالة أحد الأسباب الرئيسية لقراءتي هذا الكتاب، فبسببها علمت بوجوده ولفت نظري على الفور حينما لمحته في إحدى مكتبات معرض الكتاب. المقال لحسن الحظ مُتاح على موقع مشروع تكوين، الذي له الفضل بإصدار هذا الكتاب.
الكتاب ممتع وملهم جدًا، أنهيته في بداية فبراير، لكني لا استبعد كثيرًا أن يكون كتابي المفضل لهذا العام، أو على الأقل أحد كتبي المفضلة. أنصح بقراءته وربما يجعلك تنهي ترددك وتطاوع رغبتك في الكتابة.
"عندما يبدأ الشخص حياته كاتبًا فإنه يكره عمله، ولكن الآن وقد تقدمت بالسن أصبحت الكتابة لعبة رائعة، فأنا أحب التحدي بنفس القدر الذي أكنه للكتابة الإبداعية، لأنها تحدٍ. إنه تحدٍ فكري أن تمسك المشرط وتفتح جسم المريض دون أن تقتله."